لا بلغ الله نفسي فيك منيتها ... إنّ كان بعدك بعد الدار غيرني
جعلت دمعي على ذكراك محتسباً ... والدمع عنوان ما يخفي من الخزن
وأقسمت مقلتي ما لا تظن به ... فالذكر يجري ويجري الدمع في سنني
وقال لي قد بانوا فقلت له ... قد فرق الله بين الجفن والوسن
ولأني بكر أحمد العبدي:
يا راقد الليل بالإسكندرية لي ... من يسهر الليل وجداً ثم أسهره
ألاحظ النجم تذكاراً لرؤيته ... وإنّ جرى دمع أجفاني تذكره
وأنظر البدر مرتاحا لرؤيته ... لعل عين الذي أهواه تنظره
وقال ابن الدمينة:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجدي
لئن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنني غصن من البان والرندِ
بكيت كما يبكي الوليد ولم يكن ... جليداً وأبديت الذي لم يكن يبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وأنّ النأى يشفي من البعد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعدِ
وقال آخر:
ليالينا بذي الأثلاث عودي ... لتورق في ربا الأثلاث عودي
فإن حديثكم في القلب أحلى ... وأطيب نغمة من صوت عودِ
[ذكر فضيلة جدة]
مما ذكره أبو عبد الله بن محمد بن اسحق بن عباس في كتاب الفاكهي قال حدثنا محمد بن علي الصائغ قال حدثنا خليل بن رجاء قال ثنأ مسلم بن يونس قال حدثنا محمد بن عمرو عن ضوء بن فخر قال: كنت جالساً مع عباد بن كثير في المسجد الحرام فقلت له: الحمد لله الذي جعلنا في أفضل المجالس وأشرفها! فقال: أنت في جدة الصلاة فيها بتسعة عشر ألف صلاة والدرهم فيها بمائة ألف وأعمالها بقدر ذلك يغفر الله للناظر فيها مد بصره. قال ابن المجاور: وما أظن هذه البركة إلا من جهة أم البشر حوى صلوات الله عليها لأنها مدفونة بظاهر جدة. وكان الفرس قد بنوا عليها ضريحاً بالآجر والجص محكماً فبقي إلى سنة إحدى وعشرين وستمائة فبعد هذا التاريخ تهدم وأرتدم بعضها على بعض ولم يعاد بناءه ورأيته عامراً قائماً وقد رأيته خراباً وقد ارتدم بعضه على بعض. وهو موضع مبارك مستجاب فيه الدعوة.
[ذكر أخذ الجزية من المغاربة]
حدثني إسماعيل بن عبد السيد بن السبع البغدادي قال: إنّ الأمير علي ابن فليتة بن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبي هاشم كان يأخذ من المغاربة جزية في جدة إذا قدموا للحج، كان يأخذ من كل رأس سبعة يوسفية وزن كل يوسفي ثلاثة عشر قيراطاً وحبة بوزن مكة. وكان القواد يوزنون المغاربة أيضاً على كل رأس يوسفي في دية الكلب. والمجب لذلك أن جاء في جدة كاب فأخذ رغيف خبز فالتامت المغاربة فقتلوه فقامت القواد ليقتلوا المغاربة. فلما رأت المغاربة عين الهلاك أقروا على أنفسهم أن يزن كل واحد منهم يوسفي في دية الكلب. فتقرر ذلك عليهم فكانوا يزنون لأمير سبعة يوسفية ويوسفي للقواد وصار المبلغ ثمانية يوسفية على كل رأس. ومن لم يزن كانوا يأخذونه ويدلوه في صهريج من صهاريج جدة والأصح في صهريج مسجد الأبنوس ويقال أنهم كانوا يصيرونهم إلى جزيرة صندلة وقيل إلى جزيرة أبي سعيد ويعلقون أحدهم بحقوة وقد عرش بها أخشاب لهذا الفن. فإذا حج الناس وقضوا مناسكهم وأفاض كل راجعاً إلى مقصده فحينئذ يخرجوا المغاربة من الصهاريج والجور وقسطوهم على المراكب الراجعة إلى مصر والراجعة إلى عيذاب والقلزم.
سئل قائد من القواد: لم تأخذون منهم هذا اليوسفي وهم أشد الناس بخلاً وأنزق الناس في الخلق؟ قال: لقول الشاعر:
وخذ القليل من البخيل وذمه ... إنّ القليل من البخيل كثيرُ