للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أقول: كفى بهذا الرجل رحمه الله أن يقول مثل هذا، وما أعرف كتابا من أمهات كتب الأدب مثل الروضة للمبرد والذخيرة لابن بسام وزهر الآداب للحصري إلا وقد تضمن ذكر هذه الأبيات والثناء عليها. وحسبك بكلام يثني عليه أبو عثمان عمرو الجاحظ، وهو من أحذق أئمة الأدب، وأعرفهم بما يقول، وأبصرهم بمدارك العقول، وقوله في مثل هذا حجة، وما قرره في الأبيات هو المحجة.

وما أحسن قول القاضي الفاضل: وأما الجاحظ رحمه الله فما منا معاشر الكتاب إلا من دخل من كتبه الحارة، وشن الغارة، وخرج وعلى الكتف منها كاره.

وقد أولع الفاضل رحمه الله بذكره في ترسله، وذكر تصانيفه، ولو لم يكن له في كتب الأدب إلا كتاب البيان والتبيين لكفاه ذلك فخرا. ويقال: مما فضل الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غيرها من الأمم، عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسياسته، والحسن البصري بعلمه، والجاحظ ببيانه.

ويحكى عنه أنه قال: دخلت ديوان المكاتبات ببغداد، فرأيت قوما قد صقلوا ثيابهم، وصفوا عمائمهم، ووشوا طرزهم. ثم اختبرتهم، فوجدتهم كما قال الله تعالى: " فأما الزَّبد فيذهبُ جُفاء " ظواهر نظيفة، وبواطن سخيفة " فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون " ومن أجوبته ما يحكى عنه أنه اجتمع بالجماز في مجلس بالبصرة. فقال له الجماز: كم نارا في اللغة؟ فقال: نار الحرب، ونار الشجر، ونار الحباحب، ونار المعدة، والنار المعروفة. فقال له: تركت أبلغ النيران. قال: وما هي. قال: نار حر أمك التي كلما ألقي فيها فوج سألتها خزنتها. فقال الجاحظ: أما نار أمي فقد قضيت أن لها خزانا، الشأن في حر أمك التي يقال لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد. والجاحظ أشهر من أن يذكر بمحاسن وأنا أحكي ما قاله الجاحظ. فإن ابن الأثير رحمه الله روج المقال. والذي نقله أئمة الأدب عنه أنه قال: وجدنا المعاني تقلب، ويؤخذ بعضها من بعض، إلا قول عنترة في الذباب:

وخلا الذباب بها فليس ببارحٍ ... غردا كفعل الشارب المترنم

هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... قدح المنكبّ على الزّناد الأجذم

وقول أبي نواس في تصاوير الكأس:

تدار علينا الراح في عسجدية ... وأنشد الأبيات انتهى.

قال ابن بسام في الذخيرة وقد ذكر أن أبا نواس ولد هذا المعنى من قول امرىء القيس:

فلما استطابوا صبّ في الصحن نصفه ... وشجّت بماءٍ غير طرقٍ ولا كدر

فجعل الشراب والماء نصفين لقوة الشراب، فتسلق عليه أبو نواس وأخفاه بما شغل به الكلام من ذكره الصور المنقوشة، إلا أنها سرقة مليحة.

وكرر أبو نواس هذا المعنى عجبا به في مواضع. كقوله:

بنينا على كسرى سماء مدامةٍ ... مكلّلةً حافاتها بنجوم

فلو ردّ في كسرى بن ساسان روحه ... إذن لاصطفانا دون كل نديم

وأخذه الناشىء فولد معنى زائدا عليه فقال:

في كأسها صورٌ تظنّ لحسنها ... عربا برزن من الحجال وغيدا

وإذا المزاج أثارها فتنمنمت ... ذهبا ودرا توأما وفريدا

فكأنهنّ لبسن ذاك مجاسدا ... وجعلن ذا لنحورهنّ عقودا

وقال ابن المعتز:

وكأسٍ من زجاج فيه أسدٌ ... فرائسهنّ ألباب الرجال

وألم بهذا ابن بطال البطليوسي فقال:

وغابٍ من الأكواس فيها ضراغمٌ ... من الرّاح، ألباب الرجال فريسها

قرعت بها سنّ الهموم فأقلعت ... وقد كاد يسطو بالفؤاد رسيسها

وقال أبو تمام ابن رباح:

وكاسٍ بدا كسرى بها في قرارةٍ ... غريقا، ولكن في خليجٍ من الخمر

وما صوّرته فارسٌ عبثا به ... ولكنّهم جاؤوا بأخفى من السحر

أشاروا بما دانوا له في حياته ... فنومي إليه بالسجود ولا ندري

هذا ما أورده ابن بسام في معنى الكأس المنقوشة.

ولا بأس بإيراد ما جاء في ذلك للشعراء المتأخرين، من ذلك قول ابن سناء الملك.

ما الدرّ إلا ذا الحبا ... ب وإنني بالدر أدرى

شعري وشعرى في السما ... ء وفي كؤوسك ألف شعرى

منّت عليك ولا كما ... منّت على أشلاء كسرى

<<  <   >  >>