ويشكل على من قرر أنه لا ينتقل إلا من الأدنى إلى الأعلى، وبهذه القاعدة التي قرروها تمسك من فضل الملائكة على الأنبياء وقال: إن الله تعالى انتقل من الأدنى إلى الأعلى في قوله تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لِلّه ولا الملائكةُ المُقَّربون " فإن الحكيم لا ينتقل من الأعلى إلى الأدنى، ولا يقول البليغ: لا أفكر في السلطان ولا في الوزير بل يقول: لا أفكر في الوزير ولا في السلطان.
والصحيح الذي ذهب إليه علماء السنة، أن الأنبياء أفضل من الملائكة إلا من شذ منهم مثل: القاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي.
وقوله: ومثل جدودها في عيون الأعداء شيئاً عجابا، هذا كلام فارغ كالجسد الذي لا روح فيه.
وقوله: وأراهم في اليقظة إرهابا وإرعابا، وفي المنام إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، أصل هذا المعنى لأشجع السلمي.
وعلى عدوك يا بن عم محمدٍ ... رصدان: ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبّه رعته وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام
وما زان سجعته الثانية إلا تضمينه السجع الذي جاء في رؤية الموبذان ليلة ولد النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في ذلك من كلام سطيح.
وابن الأثير احتفل لهاتين السجعتين، وأراد مماثلة القاضي الفاضل في دعاء الكتاب الذي كتبه في فتح القدس. ومنه: ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.
وأنت أيها الواقف على هذه الأوراق حكم بين هذين الخصمين، وبيدك الأمر في الفرق بين الكلامين:
فمن استحقّ الاتقاء فرقّه ... ومن استحطّ فحطّه في حشه
وإن كان هواي مال بي إلى كلام الفاضل.
فلله ابن سناء الملك حيث قال:
إني رأيت البدر ثم رأيتها ... ماذا عليّ إذا عشقت الأحسنا
ثم قال: وهي فتح القدس الذي تفتحت له أبواب السماء، وكثرت بأحاديث مجده كواكب الظلماء، واسترد حق الإسلام وطالما سعت الهمم في طلبه بالزاد والماء.
وأي همم هذه، وما عسى أن تناله إذا لم يكن معها إلا الزاد والماء. أما كان لها مهم غير الزاد والماء، ولا لها فكرة غير ذلك؟ وهمة لا يكون همها الخيل والرجل والسلاح والدأب والسرى وركوب الأخطار، وقطع المفاوز، والصبر على السهر وأنواع المشاق، أي شيء تناله..
ثم قال: ومن أحسن ما أتى به أنه آنس قبلته الثانية بقبلته الأولى.
أقول: المليح النادر في هذا، ما ورد في خطبة القاضي محيي الدين ابن الزكي رحمه الله تعالى وهو على المنبر في أول جمعة أقيمت في القدس: ومسجدكم هذا أول القبلتين، وثاني الحرمين، وثالث المسجدين ...
واستعمل العماد الكاتب ذلك أيضاً في كتاب كتبه إلى ديوان الخلافة بفتح القدس أيضاً، فقال وقد ذكر الصخرة: فصافحت الأيدي منها موضع القدم، وتجدد لها من البهجة والرسالة ما كان لها في القدم، فهو ثاني المسجدين بل ثالث الحرمين.
ثم قال: وكان قد برز من السلاح في لباس رائع من المنعه، وأخرج من السواد الأعظم ما خدع العيون والحرب خدعه.
أقول: أكذا يكتب عن مثل ملك عانى من الأهوال ما عانى، وكابد ما كابد، وبذل نفسه وولده وأهله وماله وعساكره، حتى استنقذ مثل القدس من مثل الفرنج.. وهو يريد أن يمت إلى الخليفة بهذه اليد، ويعظم الأمر ويفخمه، ويصف الشدائد التي كابدها حتى صار هذا الفتح العظيم في أيام الخليفة، وانضاف إلى ملكه ودخل في قبضته. ويقال: خدعهم بالسواد الأعظم والحرب خدعة. ليس هذا بلائق في هذا المقام.
ثم قال: وما تمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، ولا تحمى بعوالي الأسوار بل بعوالي الصعاد.
أقول: كان الأحسن أن لو قال: وما تمنع رقاب البلاد بكثرة السواد، بل ببياض الرأي وكثرة السداد.