على أن هذا الكتاب الذي أورده ابن الأثير رحمه الله في معارضة الفاضل من أجل ما أنشاه، وأحسن ما وشاه. وإنما سبب ذلك كونه عارضه به معارضه، وأخذ محاسنه من المهلة والتأني مقارضه، فلهذا جاء منقحا وزهره مفتحا. ولو أنه أخذ درجاً، والقاضي الفاضل درجا وقعدا في مكان واحد، وأخذا في العمل على غير مثال، لبان المجلي في الحلبة من الفسكل، كما اقترح السلطان المعز على ابن رشيق وابن شرف القيرواني أن ينظما في الشعر الدقيق الذي على ساق بعض النساء ويمدحاه لكونه يستحسنه ويعيبه بعض الضراير. وقال: أريد أن يكون ذلك حجة لها على من يعيبها. فانفرد كل واحد منهما ونظما في الوقت. فكان الذي أتى به ابن شرف:
وبلقيسيّةٍ زينت بشعرٍ ... يسيرٍ مثل ما يهب الشحيح
حكى زغب الخدود وكلّ خدٍّ ... به زغب فمعشوقٌ مليح
فإن يك صرح بلقيس زجاجا ... فمن حدق العيون لها صروح
وكان الذي أتى به ابن رشيق:
يعيبون بلقيسيةٍ إذ رأوا بها ... كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا
وقد زادها التزغيب ملحا كمثل ما ... يزيد خدود المرد تزغيبها ملحا
فاستحسن المعز أبيات ابن شرف وعاب قول ابن رشيق وقال: لقد أوجدت خصمها حجةً بقولك يعيبون، فإن بعض الناس عاب ذلك. وهذا نقد حسن.
وانظر إلى هذين الشاعرين كيف نطقا بلسان واحد، عن رؤية واحدة، ومعنى واحد، وقافية واحدة.
ولا بأس بإثبات شيء من كتاب القاضي الفاضل في الفتح المذكور. ولولا خوف الإطالة لأثبت الكتابين برمتهما، ولكن يؤخذان من مكانيهما.
قال القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: أدام الله أيام الديوان العزيز، ولا زال مظفرا بكل جاحد، غنيا بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد سحاب الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي لسل غوي وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.
منه: ولله في إعادة شكره رضى، وللنعمة الراهنة دوام لا يقال معه هذا مضى، وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصائرها، وقد استتبت عقائد أهلها على بصائرها، وتقلص ظل الكافر المبسوط، وقد صدق الله أهل دينه فلما وقع الشرط وقع المشروط، وقد كان الإسلام غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا وقد بذلت الأنفس في ثمنه، وجاء أمر الله وأنوف الشرك راغمة، وأدلجت السيوف والآجال نائمة، وصدق الله وعده في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوار أبانت أن الصباح عندها جبان الجبين، واسترد المسلمون تراثا كان عنهم آبقا، فظفروا منه يقظة بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفا على النأي طارقا، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشتفي بالماء غللهم. ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود ببت عصمتها من الكافر بحربه، فلله الحمد على أن أحرمت بخلع ذلك البنيان المخيط، وطهرها ما قطر من دعم الكفر وما كان ليطهرها البحر المحيط، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا بهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤس إلا لهذه النعمى، ولا يحارب من يستظلمه إلا لتكون الكلمة مجموعة وكلمة الله هي العليا، وليفوز بجواهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا. ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقةً رابحةً خاسر، ومن سما لأن يجلي غمرة غامر.
منه لما ذكر الخلفاء لا جرم أنهم ورثوا سرهم وسريرتهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطليعتهم المنيفة، وعنوان صحيفة فضلهم، لا عدم الإسلام سواد القلم وبياض الصحيفة.
منه: والشرق يهتدي بأنواره، بل إن بدا نور من ذاته هتف الغرب بأن واره، فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا تواريه أوراق الصحف.
منه وقد ذكر الكفر: ونام سيف جفنه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى راعفة بالمنون، وأصبحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المفرد الواحد وكان في زعمهم الثالث.