للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(بَاب فِي الْمعاصِي الَّتِي هِيَ فِيمَا بَينه وَبَين نَفسه)

اعْلَم أَن الْقُوَّة الملكية من الْإِنْسَان اكتنفت بهَا الْقُوَّة البهيمية من جوانبها، وَإِنَّمَا مثلهَا فِي ذَلِك مثل طَائِر فِي قفص، سعادته أَن يخرج من هَذَا القفص، فَيلْحق بحيزه الْأَصْلِيّ من الرياض الأريضة، وَيَأْكُل الْحُبُوب الغاذية والفواكه اللذيذة من هُنَالك، وَيدخل فِي زمرة أَبنَاء نَوعه، فيبتهج بهم كل الابتهاج، فأشد شقاوة الْإِنْسَان أَن يكون دهريا، وَحَقِيقَة الدهري أَن يكون مناقضا للعلوم الفطرية المخلوقة فِيهِ، وَقد بَينا أَن لَهُ ميلًا فِي أصل فطرته إِلَى المبدأ جلّ جَلَاله، وميلا إِلَى تَعْظِيمه أَشد مَا يجد من التَّعْظِيم، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي قَوْله تبَارك وَتَعَالَى:

{وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} الْآيَة

وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة " والتعظيم الْأَقْصَى لَا يتَمَكَّن من نَفسه إِلَّا باعتقاد تصرف فِي بارئه بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَار ومجازاة وتكليف لَهُم وتشريع عَلَيْهِم، فَمن أنكر أَن لَهُ رَبًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ سلسلة الْوُجُود، أَو اعْتقد رَبًّا معطلا لَا يتَصَرَّف فِي الْعَالم أَو يتَصَرَّف فِي بِالْإِيجَابِ من غير إِرَادَة أَو لَا يجازى عباده على مَا يَفْعَلُونَ من خير وَشر، أَو أعتقد

ربه كَمثل سَائِر الْخلق، أَو أشرك عباده فِي صِفَاته، أَو اعْتقد أَنه لَا يكلفهم بشريعة على لِسَان نَبِي - فَذَلِك الدهري الَّذِي لم يجمع فِي نَفسه تَعْظِيم ربه، وَلَيْسَ لعلمه نُفُوذ إِلَى حيّز الْقُدس أصلا، وَهُوَ بِمَنْزِلَة الطَّائِر الْمَحْبُوس فِي قفص من حَدِيد لَيْسَ فِيهِ منفذ وَلَا مَوضِع إبرة، فَإِذا مَاتَ شف الْحجاب وبرزت الملكية بروزا مَا، وتحرك الْميل المفطور فِيهِ، وعاقته الْعَوَائِق فِي علمه بربه وَفِي الْوُصُول إِلَى حيّز الْقُدس، فهاجت فِي نَفسه وَحْشَة عَظِيمَة، وَنظر إِلَيْهَا بارئها وَالْمَلَأ الْأَعْلَى، وَهِي فِي تِلْكَ الْحَالة الخبيثة، فأحدقت فِيهَا بِنَظَر السخط والازدراء، وترشحت فِي نفوس الْمَلَائِكَة إلهامات السخط وَالْعَذَاب، فعذب فِي الْمِثَال وَفِي الْخَارِج، أَو كَافِرًا تكبر على الشَّأْن الَّذِي تطور بِهِ الله تَعَالَى كَمَا قَالَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>