للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلم يشْتَرط الطَّهَارَة فِي مجَالِس النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَن كل شَيْء لَهُ تَعْظِيم يُنَاسِبه وَكَانَ بشرا يعروه من الْأَحْدَاث والجنابة مَا يعرو الْبشر، فَكَانَ اشْتِرَاط الطَّهَارَة فِي ذَلِك قلبا للموضوع.

قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ صُورَة وَلَا كلب وَلَا جنب ".

أَقُول المُرَاد أَن هَذِه تنفر مِنْهَا الْمَلَائِكَة، وَأَنَّهَا أضداد مَا فِيهِ الْمَلَائِكَة من الطَّهَارَة والتنفر من عَبدة الْأَصْنَام.

وَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَن تصيبه الْجَنَابَة من اللَّيْل: " تَوَضَّأ، واغسل ذكرك، ثمَّ نم " أَقُول لما كَانَت الْجَنَابَة مُنَافِيَة لهيئات الْمَلَائِكَة كَانَ المرضى فِي حق الْمُؤمن أَلا يسترسل فِي حَوَائِجه من النّوم وَالْأكل مَعَ الْجَنَابَة إِذا تَعَذَّرَتْ الطَّهَارَة الْكُبْرَى لَا يَنْبَغِي أَن يدع الطَّهَارَة الصُّغْرَى لِأَن أَمرهمَا وَاحِد غير أَن الشَّارِع وزعهما على الحدثين.

(التَّيَمُّم)

لما كَانَ من سنة الله فِي شرائعه أَن يسهل عَلَيْهِم كل مَا لَا يستطيعونه، وَكَانَ أَحَق أَنْوَاع التَّيْسِير أَن يسْقط مَا فِيهِ حرج إِلَى بدل لتطمئن نُفُوسهم، وَلَا تخْتَلف الخواطر عَلَيْهِم بإهمال مَا التزموه غَايَة الِالْتِزَام مرّة وَاحِدَة،

وَلَا يألفوا ترك الطهارات - أسقط الْوضُوء وَالْغسْل فِي الْمَرَض وَالسّفر إِلَى التَّيَمُّم، وَلما كَانَ ذَلِك كَذَلِك نزل الْقَضَاء فِي الْمَلأ الْأَعْلَى بِإِقَامَة التَّيَمُّم مقَام الْوضُوء وَالْغسْل، وَحصل لَهُ وجود تشبيهي أَنه طَهَارَة من الطهارات، وَهَذَا الْقَضَاء أحد الْأُمُور الْعِظَام الَّتِي تميزت بهَا الْملَّة المصطفوية من سَائِر الْملَل، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جعلت تربَتهَا لنا طهُورا إِذا لم نجد المَاء "

أَقُول: إِنَّمَا خص الأَرْض لِأَنَّهَا لَا تكَاد تفقد، فَهِيَ أَحَق مَا يرفع بِهِ الْحَرج، وَلِأَنَّهَا طهُور فِي بعض الْأَشْيَاء كالخف وَالسيف بَدَلا عَن الْغسْل بِالْمَاءِ، وَلِأَن فِيهِ تذللا بِمَنْزِلَة تعفير الْوَجْه فِي التُّرَاب، وَهُوَ يُنَاسب طلب الْعَفو، وَإِنَّمَا لم يفرق بَين بدل الْغسْل وَالْوُضُوء - وَلم يشرع التمرغ - لِأَن من حق مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ بادئ الرَّأْي أَن يَجْعَل كالمؤثر بالخاصية دون الْمِقْدَار، فانه هُوَ الَّذِي اطمأنت نُفُوسهم بِهِ فِي هَذَا الْبَاب، وَلِأَن التمرغ فِيهِ بعض الْحَرج، فَلَا يصلح رَافعا للْحَرج بِالْكُلِّيَّةِ.

وَفِي معنى الْمَرَض الْبرد الضار - لحَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ - وَالسّفر لَيْسَ بِقَيْد، إِنَّمَا هُوَ صُورَة لعدم وجدان المَاء يتَبَادَر إِلَى الذِّهْن، وَإِنَّمَا لم يُؤمر بمسح الرجل بِالتُّرَابِ - لِأَن الرجل مَحل الأوساخ - وَإِنَّمَا يُؤمر بِمَا لَيْسَ حَاصِلا ليحصل بِهِ التنبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>