للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي خلق خلقه الله تَعَالَى، يعبر عَنهُ تَارَة باللوح، وَتارَة بِالْكتاب الْمُبين، وَتارَة بِإِمَام مُبين، كَمَا ورد فِي الْقُرْآن، فَجَمِيع مَا جرى فِي الْعَالم، وَمَا سيجري مَكْتُوب فِيهِ، ومنقوش عَلَيْهِ نقشا لَا يُشَاهد بِهَذِهِ الْعين. وَلَا تَظنن أَن ذَلِك اللَّوْح من خشب أَو حَدِيد أَو عظم، وَأَن الْكتاب من كاغد أَو ورق، بل يَنْبَغِي أَن تفهم قطعا أَن لوح الله لَا يشبه لوح الْخلق، وَكتاب الله لَا يشبه كتاب الْخلق، كَمَا أَن ذَاته وَصِفَاته لَا تشبه ذَات الْخلق وصفاتهم، بل أَن كنت تطلب لَهُ مِثَالا يقربهُ إِلَى فهمك، فَاعْلَم أَن ثُبُوت الْمَقَادِير فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ يضاهي ثُبُوت كَلِمَات الْقُرْآن وحروفه فِي دماغ حَافظ الْقُرْآن وَقَلبه، فَإِنَّهُ مسطور فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ حَيْثُ يقْرَأ ينظر إِلَيْهِ، وَلَو فتشت دماغه جُزْءا جُزْءا لم تشاهد من ذَلِك الْخط حرفا، فَمن هَذَا النمط يَنْبَغِي أَن تفهم كَون اللَّوْح مَنْقُوشًا بِجَمِيعِ مَا قدره الله تَعَالَى وقضاه انْتهى، ثمَّ كثيرا مَا تتذكر النَّفس مَا عملته من خير أَو شَرّ، وتتوقع جزاءه، فَيكون ذَلِك وَجها آخر من وُجُوه اسْتِقْرَار عمله وَالله أعلم.

(بَاب ارتباط الْأَعْمَال بالهيئات النفسانية)

اعْلَم أَن الْأَعْمَال مظَاهر الهيئات النفسانية، وشروح لَهَا، وشركات لاقتناصها، ومتحدة مَعهَا فِي الْعرف الطبيعي أَن يتَّفق جُمْهُور النَّاس على التَّعْبِير بهَا عَنْهَا بِسَبَب طبيعي تعطيه الصُّورَة النوعية، وَذَلِكَ لِأَن الداعية إِذا انبعثت إِلَى عمل، فطاوعت لَهُ نَفسه انبسطت، وانشرحت، وَإِن امْتنعت انقبضت، وتقلصت فَإِذا بَاشر الْعَمَل استبد منبعه من ملكية أَو بهيمية وقوى وانحرف مُقَابِله وَضعف، وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَة فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النَّفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِك، ويكذبه ".

وَلنْ ترى خلقا إِلَّا وَله أَعمال وهيئات يشار بهَا إِلَيْهِ، ويعبر بهَا عَنهُ وتتمثل صورتهَا مكشافا لَهُ، فَلَو أَن إنْسَانا وصف إنْسَانا آخر بالشجاعة واستفسر، فَبين لم يبين إِلَّا معالجاته الشَّديد، أَو بالسخاوة لم يبين إِلَّا دَرَاهِم ودنانير يبذلها، وَلَو أَن إنْسَانا أَرَادَ أَن يستحضر صُورَة الشجَاعَة والسخاوة اضْطر إِلَى صور تِلْكَ الْأَعْمَال اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون قد غير فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا، وَلَو أَن وَاحِدًا أَرَادَ أَن يحصل خلقا لَيْسَ فِيهِ، فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى ذَلِك إِلَّا الْوُقُوع فِي مظانة، وتجشم الْأَعْمَال الْمُتَعَلّقَة بِهِ، وتذكر وقائع الأقوياء

<<  <  ج: ص:  >  >>