للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(أُمُور تتَعَلَّق بِالصَّوْمِ)

اعْلَم أَن كَمَال الصَّوْم إِنَّمَا هُوَ تنزيهه عَن الْأَفْعَال والأقوال الشهوية والسبعية والشيطانية، فَإِنَّهَا تذكر النَّفس فِي الْأَخْلَاق الخسيسة، وتهيجها لهيآت فَاسِدَة، والاحتراز عَمَّا يُفْضِي إِلَى الْفطر، ويدعوا إِلَيْهِ، فَمن الأول قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَلَا يرْفث وَلَا يصخب فَإِن سابه أحد أَو قَاتله فَلْيقل إِنِّي صَائِم " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من لم يدع قَول الزُّور وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه " وَالْمرَاد بِالنَّفْيِ نفي الْكَمَال، وَمن الثَّانِي: " أفطر الحاجم والمحجوم " فَإِن المحجوم تعرض للأفطار من الضعْف، والحاجم لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن من أَن يصل شَيْء إِلَى جَوْفه بمص الملازم، والتقبيل والمباشرة، وَكَانَ النَّاس قد أفرطوا، وتعمقوا، وكادوا أَن يَجْعَلُوهُ من مرتبَة الرُّكْن، فَبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولا وفعلا أَنه لَيْسَ مُفطرا وَلَا منقصا للصَّوْم. وأشعر بِأَنَّهُ ترك الأولى فِي حق غَيره بِلَفْظ الرُّخْصَة، وَأما هُوَ كَانَ مَأْمُورا بِبَيَان الشَّرِيعَة، فَكَانَ هُوَ الأولى فِي حَقه، وَكَذَا سَائِر مَا تنزل فِيهِ عَن دَرَجَة الْمُحْسِنِينَ إِلَى دَرَجَة عَامَّة الْمُؤمنِينَ، وَالله أعلم.

وَاخْتلفت سنَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي الصَّوْم، فَكَانَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام يَصُوم الدَّهْر، وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام يَصُوم يَوْمًا، وَيفْطر يَوْمًا، وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَصُوم يَوْمًا، وَيفْطر يَوْمَيْنِ أَو أَيَّامًا، وَكَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَاصَّة نَفسه يَصُوم حَتَّى يُقَال لَا يفْطر، وَيفْطر حَتَّى يُقَال لَا يَصُوم، وَلم يكن يستكمل صِيَام شهر إِلَّا رَمَضَان، وَذَلِكَ أَن الصّيام ترياق، والترياق لَا يسْتَعْمل إِلَّا بِقدر الْمَرَض.

وَكَانَ قوم نوح عَلَيْهِ السَّلَام شديدي الأمزجة حَتَّى روى عَنْهُم مَا روى، وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ذَا قُوَّة ورزانة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَكَانَ لَا يفر إِذا لَاقَى " وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ضَعِيفا فِي بدنه فَارغًا لَا أهلك لَهُ وَلَا مَال، فَاخْتَارَ كل وَاحِد مَا يُنَاسب الْأَحْوَال، وَكَانَ نَبينَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارِفًا بفوائد الصَّوْم والإفطار مطلعا على مزاجه وَمَا يُنَاسِبه، فَاخْتَارَ بِحَسب مصلحَة الْوَقْت مَا شَاءَ، وَاخْتَارَ لأمته صياما.

مِنْهَا يَوْم عَاشُورَاء وسر مشروعيته أَنه وَقت نصر الله تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على فِرْعَوْن وَقَومه، وشكر مُوسَى بِصَوْم ذَلِك الْيَوْم، وَصَارَ سنة بَين أهل الْكتاب وَالْعرب، فأقره رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَمِنْهَا صَوْم عَرَفَة، السِّرّ فِيهِ أَنه تشبه بالحاج وَتَشَوُّقِ إِلَيْهِم وَتعرض للرحمة الَّتِي تنزل عَلَيْهِم، وسر فَضله على صَوْم يَوْم عَاشُورَاء أَنه خوض فِي لجة الرَّحْمَة النَّازِلَة ذَلِك الْيَوْم، وَالثَّانِي تعرض للرحمة الَّتِي مَضَت، وَانْقَضَت، فَعمد النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ثَمَرَة الْخَوْض فِي لجة

<<  <  ج: ص:  >  >>