للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحكم حَيْثُمَا وجدهَا لَا يألوا جهدا فِي مُوَافقَة غَرَضه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَعِنْدَ ذَلِك وَقع الِاخْتِلَاف بَينهم على ضروب:

مِنْهَا أَن صحابيا سمع حكما فِي قَضِيَّة أَو فَتْوَى، وَلم يسمعهُ الآخر فاجتهد بِرَأْيهِ فِي ذَلِك. وَهَذَا على وُجُوه:

أَحدهَا أَن يَقع اجْتِهَاده مُوَافق الحَدِيث. مِثَاله مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ سُئِلَ عَن امْرَأَة مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا، وَلم يفْرض لَهَا فَقَالَ: لم أر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقْضِي فِي ذَلِك، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ شهرا، وألحوا، فاجتهد بِرَأْيهِ، وَقضى بِأَن لَهَا مهر نسائها لَا وكس وَلَا شطط، وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلها الْمِيرَاث، فَقَامَ معقل بن يسَار،

فَشهد بِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بِمثل ذَلِك فِي امْرَأَة مِنْهُم، ففرح بذلك ابْن مَسْعُود فرحة لم يفرح مثلهَا قطّ بعد الْإِسْلَام.

ثَانِيهَا أَن يَقع بَينهمَا المناظرة، وَيظْهر الحَدِيث بِالْوَجْهِ الَّذِي يَقع بِهِ غَالب الظَّن، فَيرجع عَن اجْتِهَاده إِلَى المسموع. مِثَاله مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة من أَن أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ كَانَ من مذْهبه أَنه من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ حَتَّى أخْبرته بعض أَزوَاج النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَاف مذْهبه، فَرجع.

وَثَالِثهَا أَن يبلغهُ الحَدِيث وَلَكِن لَا على الْوَجْه الَّذِي يَقع بِهِ غَالب الظَّن، فَلم يتْرك اجْتِهَاده، بل طعن فِي الحَدِيث، مِثَاله مَا رَوَاهُ أَصْحَاب الْأُصُول من أَن فَاطِمَة بنت قيس شهِدت عِنْد عمر بن الْخطاب بِأَنَّهَا كَانَت مُطلقَة

الثَّلَاث فَلم يَجْعَل لَهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَة وَلَا سُكْنى، فَرد شهادتها وَقَالَ: لَا أترك كتاب الله بقول امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى، وَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لفاطمة: أَلا تتقي الله - يَعْنِي فِي قَوْلهَا - لَا سُكْنى وَلَا نَفَقَة ...

وَمِثَال آخر روى الشَّيْخَانِ أَنه كَانَ من مَذْهَب عمر بن الْخطاب أَن التَّيَمُّم لَا يُجزئ للْجنب الَّذِي لَا يجد مَاء، فروى عِنْده عمار أَنه كَانَ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سفر، فأصابته جَنَابَة وَلم يجد مَاء، فتمعك فِي التُّرَاب فَذكر ذَلِك لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تفعل هَكَذَا، وَضرب بيدَيْهِ على الأَرْض، فَمسح بهما وَجهه وَيَديه، فَلم يقبل عمر، وَلم ينْهض عِنْده حجَّة لقادح خَفِي رَآهُ فِيهِ حَتَّى استفاض الحَدِيث فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة من طرق كَثِيرَة، واضمحل وهم القادح فَأخذُوا بِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>