أحد إِلَى قَول إِنْسَان مِنْهُم أَو مِمَّن قبلهم، فَيَأْخذهُ كلهم، فَليعلم من أَخذ بِجَمِيعِ أَقْوَال أبي حنيفَة، أَو جَمِيع أَقْوَال مَالك، أَو جَمِيع أَقْوَال الشَّافِعِي، أَو جَمِيع أَقْوَال أَحْمد رَضِي الله عَنْهُم، وَلم يتْرك قَول من اتبع مِنْهُم أَو من غَيرهم إِلَى قَول غَيره، وَلم يعْتَمد على مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن وَالسّنة غير صَارف ذَلِك إِلَى قَول إِنْسَان بِعَيْنِه - أَنه قد خَالف إِجْمَاع الْأمة كلهَا أَولهَا عَن آخرهَا بِيَقِين لَا إِشْكَال فِيهِ وَأَنه لَا يجد لنَفسِهِ سلفا، وَلَا إنْسَانا فِي جَمِيع الْأَعْصَار المحمودة الثَّلَاثَة، فقد اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نَعُوذ بِاللَّه من هَذِه الْمنزلَة.
وَأَيْضًا فَإِن هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء كلهم قد نهوا عَن تَقْلِيد غَيرهم، فقد خالفهم من قلدهم، وَأَيْضًا فَمَا الَّذِي جعل رجلا من هَؤُلَاءِ أَو من غَيرهم أولى أَن يُقَلّد من عمر بن الْخطاب أَو عَليّ بن أبي طَالب أَو ابْن مَسْعُود أَو ابْن عمر أَو ابْن عَبَّاس أَو عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَلَو سَاغَ التَّقْلِيد لَكَانَ كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ أَحَق بِأَن يتبع من غَيره انْتهى، إِنَّمَا يتم فِيمَن لَهُ ضرب من الِاجْتِهَاد وَلَو فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة، وفيمن ظهر عَلَيْهِ ظهورا بَيْننَا أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمر بِكَذَا، وَنهى عَن كَذَا، وَأَنه لَيْسَ بمنسوخ إِمَّا بِأَن يتتبع الْأَحَادِيث وأقوال الْمُخَالف والموافق فِي الْمَسْأَلَة، فَلَا يجد لَهَا نسخا، أَو بِأَن يرى جمعا غفيرا من المتبحرين فِي الْعلم يذهبون إِلَيْهِ، وَيرى الْمُخَالف لَهُ لَا يحْتَج إِلَّا بِقِيَاس أَو استنباط أَو نَحْو ذَلِك، فَحِينَئِذٍ لَا سَبَب لمُخَالفَة حَدِيث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا نفاق خَفِي، أَو حمق جلي.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام حَيْثُ قَالَ:
وَمن الْعجب العجيب أَن الْفُقَهَاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مَأْخَذ إِمَامه بِحَيْثُ لَا يجد لضَعْفه مدفعا، وَهُوَ مَعَ ذَلِك يقلده فِيهِ، وَيتْرك من شهد الْكتاب وَالسّنة والأقيسة الصَّحِيحَة لمذهبهم جمودا على تَقْلِيد إِمَامه، بل يتخيل لدفع ظَاهر الْكتاب وَالسّنة، ويتأولها بالتأويلات الْبَعِيدَة الْبَاطِلَة نضالا عَن مقلده.
وَقَالَ: لم يزَال النَّاس يسْأَلُون من اتّفق من الْعلمَاء من غير تَقْيِيد لمَذْهَب وَلَا إِنْكَار على أحد من السَّائِلين إِلَى أَن ظَهرت هَذِه الْمذَاهب ومتعصبوها من المقلدين، فَإِن أحدهم يتبع إِمَامه مَعَ بعد مذْهبه عَن الْأَدِلَّة مُقَلدًا لَهُ فِيمَا قَالَ كَأَنَّهُ نَبيا أرسل، وَهَذَا نأي عَن الْحق، وَبعد عَن الصَّوَاب لَا يرضى بِهِ أحد من أولى الْأَلْبَاب.
وَقَالَ الإِمَام أَبُو شامة: يَنْبَغِي لمن اشْتغل بالفقه أَلا يقْتَصر على مَذْهَب إِمَام، ويعتقد فِي كل مَسْأَلَة صِحَة مَا كَانَ أقرب إِلَى دلَالَة الْكتاب وَالسّنة المحكمة، وَذَلِكَ سهل عَلَيْهِ إِذا كَانَ أتقن مُعظم الْعُلُوم الْمُتَقَدّمَة، وليجتنب التعصب وَالنَّظَر فِي طرائق الْخلاف الْمُتَأَخِّرَة،