للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لأثره، وَغنما استعداده لَهُ لغلواء الْبَهِيمَة وَقد انقهرت، وَأَن الْملك لَا يقرب إِلَّا مِمَّن استعد لَهُ، وَإِنَّمَا استعداده بِظُهُور الملكية وَقد ظَهرت، وَأَيْضًا فرمضان مَظَنَّة اللَّيْلَة الَّتِي يفرق فِيهَا كل أَمر حَكِيم، فَلَا جرم أَن الْأَنْوَار المثالية والملكية تَنْتَشِر حِينَئِذٍ، وَأَن أضدادها تنقبض.

قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من صَامَ شهر رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَظَنَّة غَلَبَة الملكية ومغلوبية البهيمية ونصاب صَالح من الْخَوْض فِي لجة الرِّضَا وَالرَّحْمَة، فَلَا جرم أَن ذَلِك مغير للنَّفس من لون إِلَى لون.

قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من قَامَ لَيْلَة الْقدر إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الطَّاعَة إِذا وجدت فِي وَقت انتشار

الروحانية وَظُهُور سلطنة الْمِثَال أثرت فِي صميم النَّفس مَا لَا يُؤثر إعدادها فِي غَيره.

قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كل عمل ابْن آدم يُضَاعف الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، قَالَ الله تَعَالَى إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ يدع شَهْوَته وَطَعَامه من أَجلي " أَقُول: سر مضاعفة الْحَسَنَة أَن الْإِنْسَان إِذا مَاتَ، وَانْقطع عَنهُ مدد بهيميته، وَأدبر عَن اللَّذَّات الملائمة لَهَا - ظَهرت الملكية، ولمع أنوارها بالطبيعة المجازاة وَهَذَا هُوَ سر المجازة، فَإِن كَانَ الْعَمَل خيرا فقليله كثير حِينَئِذٍ لظُهُور الملكية ومناسبته بهَا، وسر اسْتثِْنَاء الصَّوْم أَن كِتَابَة الْأَعْمَال فِي صحائفها إِنَّمَا تكون بتصور صُورَة كل عمل فِي موطن من الْمِثَال مُخْتَصّ بِهَذَا الرجل بِوَجْه يظْهر مِنْهَا صُورَة جَزَائِهِ الْمُتَرَتب عَلَيْهِ عِنْد تجرده عَن غواشي الْحَسَد، وَقد شاهدنا ذَلِك مرَارًا وشاهدنا أَن الكتبة كثيرا مَا تتَوَقَّف فِي إبداء جَزَاء الْعَمَل الَّذِي هُوَ من قبيل مجاهدة شهوات النَّفس إِذْ فِي إبدائه دخل لمعْرِفَة مِقْدَار خلق النَّفس الصَّادِر هَذَا الْعَمَل مِنْهُ، وهم لم يذوقوه ذوقا، وَلم يعلموه وجدانا، وَهُوَ سر اختصامهم فِي الْكَفَّارَات والدرجات على مَا ورد فِي الحَدِيث، فَيُوحِي الله إِلَيْهِم حِينَئِذٍ أَن اكتبوا الْعَمَل كَمَا هُوَ، وفوضوا جزاءه إِلَى، وَقَوله: " فَإِنَّهُ يدع شَهْوَته وَطَعَامه من أَجلي " إِشَارَة إِلَى أَنه من الْكَفَّارَات الَّتِي لَهَا نكاية فِي نَفسه البهيمية، وَلِهَذَا الحَدِيث بطن آخر قد أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي أسرار الصَّوْم فَرَاجعه.

قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " للصَّائِم فرحتان فرحة عِنْد فطره وفرحة عِنْد لِقَاء ربه " فَالْأولى طبيعية من قبل وجدان مَا تطلبه نَفسه، وَالثَّانيَِة إلهية من قبل تهيئته لظُهُور أسرار التَّنْزِيه عِنْد تجرده عَن غواشي الْجَسَد وترشح الْيَقِين عَلَيْهِ من فَوْقه، كَمَا أَن الصَّلَاة تورث ظُهُور أسرار التجلي الثبوتي، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَلَا تغلبُوا على صَلَاة قبل الطُّلُوع وَقبل الْغُرُوب " وَهَهُنَا - أسرار يضيق هَذَا الْكتاب عَن كشفها.

<<  <  ج: ص:  >  >>