على النُّزُول فِي فضاء مثل منى لحرجوا، وَإِن اخْتصَّ بَعضهم بالنزول لوجدوا فِي أنفسهم، وَلما جرت الْعَادة بنزولها اقْتضى ديدن الْعَرَب وحميتهم أَن يجْتَهد كل حَيّ فِي التفاخر وَالتَّكَاثُر، وَذكر مآثر الْآبَاء وإراءة جلدهمْ وَكَثْرَة أعوانهم ليرى ذَلِك الأقاصي والأداني، وَيبعد بِهِ الذّكر فِي الأقطار، وَكَانَ لِلْإِسْلَامِ حَاجَة إِلَى اجْتِمَاع مثله يظْهر بِهِ شَوْكَة الْمُسلمين وعدتهم وعدتهم، ليظْهر دين الله، وَيبعد صيته، ويغلب على كل قطر من الأقطار، فأبقاه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحث عَلَيْهِ وَندب إِلَيْهِ، وَنسخ التفاخر، وَذكر الْآبَاء،
وأبدله بِذكر الله بِمَنْزِلَة مَا أبقى من ضيافاتهم وولائمهم. وَلِيمَة النِّكَاح. وعقيقة الْمَوْلُود لما رأى فِيهَا من فَوَائِد جليلة فِي تَدْبِير الْمنَازل.
والسر فِي الْمبيت بِمُزْدَلِفَة أَنه كَانَ سنة قديمَة فيهم، ولعلهم اصْطَلحُوا عَلَيْهَا لما رَأَوْا من أَن للنَّاس اجتماعا لم يعْهَد مثله فِي غير هَذَا الموطن، وَمثل هَذَا مَظَنَّة أَن يزاحم بَعضهم بَعْضًا، ويحطم بَعضهم بَعْضًا، وَإِنَّمَا براحهم بعد الْمغرب، وَكَانُوا طول النَّهَار فِي تَعب يأْتونَ من كل فج عميق، فَلَو تجشموا أَن يَأْتُوا منى، وَالْحَال هَذِه لتعبوا، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يدْفَعُونَ من عَرَفَات قبل الْغُرُوب، وَلما كَانَ ذَلِك قدرا غير ظَاهر، وَلَا يتَعَيَّن بِالْقطعِ، وَلَا بُد فِي مثل هَذَا الِاجْتِمَاع من تعْيين لَا يحْتَمل الْإِبْهَام وَجب أَن يعين بالغروب.
وَإِنَّمَا شرع الْوُقُوف بالمشعر الْحَرَام لِأَنَّهُ كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتفاخرون، ويتراءون فأبدل من ذَلِك إكثار ذكر الله ليَكُون كابحا عَن عَادَتهم، وَيكون التنويه بِالتَّوْحِيدِ فِي ذَلِك الموطن كالمنافسة كَأَنَّهُ قيل: هَل يكون ذكركُمْ الله أَكثر أَو ذكر أهل الْجَاهِلِيَّة مفاخرهم أَكثر.
والسر فِي رمي الْجمار مَا ورد فِي نفس الحَدِيث من أَنه إِنَّمَا جعل لإِقَامَة ذكر الله عز وَجل، وتفصيله أَن أحسن أَنْوَاع تَوْقِيت الذّكر وأكملها وأجمعها لوجوه التَّوْقِيت أَن يُوَقت بِزَمَان وبمكان ويقام مَعَه مَا يكون حَافِظًا لعدده محققا لوُجُوده على رُءُوس الأشهاد حَيْثُ لَا يخفى شَيْء، وَذكر الله نَوْعَانِ: نوع يقْصد بِهِ الإعلان بانقياده لدين الله، وَالْأَصْل فِيهِ اخْتِيَار مجامع النَّاس دون الْإِكْثَار، وَمِنْه الرَّمْي وَلذَلِك لم يُؤمر بالإكثار هُنَاكَ، وَنَوع يقْصد بِهِ انصباع النَّفس بالتطلع للجبروت، وَفِيه الْإِكْثَار، وَأَيْضًا ورد فِي الْأَخْبَار مَا يَقْتَضِي أَنه سنة سنّهَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حِين طرد الشَّيْطَان، فَفِي حِكَايَة مثل هَذَا الْفِعْل