للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وليسا من الْحيَاء الْمَعْدُود من المقامات فِي شَيْء، فَعرف النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْنى المُرَاد بِتَعْيِين أَفعَال تنبعث مِنْهُ، وَالسَّبَب الَّذِي يجبله ومجاورة الَّذِي يلْزمه فِي الْعَادة، فَقَوله، " فَلْيحْفَظ الرَّأْس " الخ بَيَان للأفعال المنبجسة من ملكه الْحيَاء المُرَاد مِمَّا هُوَ من جنس ترك المخالفات، وَقَوله: " وليذكر الْمَوْت " بَيَان لسَبَب استقراره فِي النَّفس، وَقَوله " من أَرَادَ الْآخِرَة " بَيَان لمجاورة الَّذِي هُوَ الزّهْد، فَإِن الْحيَاء لَا يَخْلُو عَن الزّهْد، فَإِذا تمكن الْحيَاء من الْإِنْسَان نزل نور الْإِيمَان أَيْضا وخالطه جبلة الْقلب، ثمَّ انحدر إِلَى النَّفس، فصدها عَن الشُّبُهَات، وَهَذَا هُوَ الْوَرع.

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" الْحَلَال بَين، وَالْحرَام بَين، وَبَينهمَا أُمُور مُشْتَبهَات لَا يعلمهَا كثير من النَّاس، فَمن اتَّقى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لعرضه وَدينه " وَمن وَقع فِي المشتبهات وَقع فِي الْحَرَام " وَقَالَ: " دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك، فَإِن الصدْق طمأنينة، وَإِن الْكَذِب رِيبَة " وَقَالَ: " لَا يبلغ العَبْد أَن يكون من الْمُتَّقِينَ حَتَّى يدع مَا لَا بَأْس بِهِ حذرا لما بِهِ بَأْس " أَقُول: قد يتعارض فِي الْمَسْأَلَة وَجْهَان: وَجه إِبَاحَة، وَوجه تَحْرِيم. إِمَّا فِي أصل مَأْخَذ الْمَسْأَلَة من الشَّرِيعَة كحديثين متعارضين وقياسين متخالفين، وَإِمَّا فِي تطبيق صُورَة الْحَادِثَة بِمَا تقرر فِي الشَّرِيعَة من حكمي الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم، فَلَا يصفو مَا بَين العَبْد وَبَين الله إِلَّا بِتَرْكِهِ، وَالْأَخْذ (بِمَا - لَا) اشْتِبَاه فِيهِ، فَإِذا تحقق الْوَرع نزل نور الْإِيمَان أَيْضا، وخالطه جبلة الْقلب، فانكشف قبح الِاشْتِغَال بِمَا يزِيد

على الْحَاجة لِأَنَّهُ يصده عَمَّا هُوَ بسبيله، فانحدر إِلَى النَّفس، فكفها عَن طلبه.

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه " أَقُول: كل شغل بِمَا سوى الله نُكْتَة سَوْدَاء فِي مرْآة النَّفس إِلَّا أَن (مَا - لَا) بُد لَهُ مِنْهُ فِي حَيَاته إِذا كَانَ بنية الْبَلَاغ مَعْفُو عَنهُ، وَأما سوى ذَلِك فواعظ الله فِي قلب الْمُؤمن يَأْمر بالكف عَنهُ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الزهادة فِي الدُّنْيَا لَيست بِتَحْرِيم الْحَلَال وَلَا إِضَاعَة المَال، وَلَكِن الزهادة فِي الدُّنْيَا أَلا تكون بِمَا فِي يدك أوثق مِنْك بِمَا فِي يَدي الله، وَأَن تكون فِي ثَوَاب الْمُصِيبَة إِذا أَنْت أصبت بهَا أَرغب مِنْك فِيهَا لَو أَنَّهَا أبقيت لَك ".

أَقُول: قد يحصل للزاهد فِي الدُّنْيَا غَلَبَة تحمله على عقائد وأفعال مَا هِيَ محمودة فِي الشَّرْع مِمَّا لَيْسَ بمحمود، فَبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من محَال الزّهْد مَا هُوَ مَحْمُود فِي الشَّرْع مِمَّا لَيْسَ بمحمود، فالرجل إِذا انْكَشَفَ عَلَيْهِ قبح الِاشْتِغَال بِالزَّائِدِ على الْحَاجة، فكرهه كَمَا يكره الْأَشْيَاء الضارة بالطبع رُبمَا يُؤَدِّيه ذَلِك إِلَى التعمق فِيهِ، فيعتقد مُؤَاخذَة الله عَلَيْهِ فِي صراح

<<  <  ج: ص:  >  >>