للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمستبصر يشْهد عِنْده لما ذكرنَا حُدُوث كثير من الْمرَافِق فِي الْبلدَانِ بعد مَا لم تكن، فَمضى على ذَلِك قُرُون، وَلم يزَالُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك حَتَّى اجْتمعت

جملَة صَالِحَة من الْعُلُوم الإلهامية المؤيدة بالمكتسبة، ونشبت عَلَيْهَا نُفُوسهم، وَعَلَيْهَا كَانَ محياهم ومماتهم، وَبِالْجُمْلَةِ فحال الإلهامات الضرورية مَعَ هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة كَمثل النَّفس أَصله ضَرُورِيّ بِمَنْزِلَة حَرَكَة النبض، وَقد انظم مَعَه الِاخْتِيَار فِي صغر الأنفاس وكبرها.

وَلما كَانَت هَذِه الثَّلَاثَة لَا تُوجد فِي جَمِيع النَّاس سَوَاء لاخْتِلَاف أمزجة النَّاس وعقولهم الْمُوجبَة للانبعاث، من رَأْي كلي، ولحب الظرافة، ولاستنباط الارتفاقات، والاقتداء فِيهَا، ولاختلافهم فِي التفرغ للنَّظَر وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب كَانَ للارتفاقات حدان.

الأول هُوَ الَّذِي لَا يُمكن أَن يَنْفَكّ عَنهُ أهل الاجتماعات القاصرة كَأَهل البدو وسكان شَوَاهِق الْجبَال والنواحي الْبَعِيدَة من الأقاليم الصَّالِحَة، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيه بالارتفاق الأول.

وَالثَّانِي مَا عَلَيْهِ أهل الْحَضَر والقرى العامرة من الأقاليم الصَّالِحَة المستوجبة أَن ينشأ فِيهَا أهل الْأَخْلَاق الفاضلة والحكماء، فَإِنَّهُ كثر هُنَالك الاجتماعات وزدحمت الْحَاجَات، وَكَثُرت التجارب، فاستنبطت سنَن جزيلة، وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ.

والطرف الْأَعْلَى من هَذَا الْحَد مَا يتعامله الْمُلُوك أهل الرَّفَاهِيَة الْكَامِلَة الَّذين يرد عَلَيْهِم حكماء الْأُمَم، فينتحلون مِنْهُم سننا صَالِحَة، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيه بالارتفاق الثَّانِي، وَلما كمل الارتفاق الثَّانِي أوجب ارتفاقا ثَالِثا، وَذَلِكَ أَنهم لما دارت بَينهم الْمُعَامَلَات وداخلها الشُّح والحسد والمطل والتجاحد، نشأت بَينهم اختلافات ومنازعات وَأَنَّهُمْ نَشأ فيهم من تغلب عَلَيْهِ الشَّهَوَات الرَّديئَة، أَو يجبل على الجراءة فِي الْقَتْل والنهب، وَأَنَّهُمْ

كَانَت لَهُم ارتفاقات مُشْتَركَة النَّفْع لَا يُطيق وَاحِد مِنْهُم إِقَامَتهَا، أَو لَا تسهل عَلَيْهِ، أَو لَا تسمح نَفسه بهَا، فاضطروا إِلَى إِقَامَة ملك يقْضِي بَينهم بِالْعَدْلِ، ويزجر عاصيهم، ويقاوم جريئهم، ويجبي مِنْهُم الْخراج، ويصرفه فِي مصرفه، وَأوجب الارتفاق الثَّالِث ارتفاقا رَابِعا، وَذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>