للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْخمر من هَاتين الشجرتين النَّخْلَة والعنبة " وتخصيصهما بِالذكر لما كَانَ حَال تِلْكَ الْبِلَاد، وَسُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَام عَن المزر والبتع، فَقَالَ: " كل مُسكر حرَام " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام " أَقُول: هَذِه الْأَحَادِيث مستفيضة، وَلَا أَدْرِي أَي فرق بَين العنبى وَغَيره لِأَن التَّحْرِيم مَا نزل إِلَّا للمفاسد الَّتِي نَص الْقُرْآن عَلَيْهَا وَهِي مَوْجُودَة فيهمَا، وَفِيمَا سواهُمَا سَوَاء

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يدمنها لم يتب لم يشْربهَا فِي الْآخِرَة " أَقُول: وَسبب ذَلِك أَن الغائص فِي الْحَالة البهيمية الْمُدبرَة عَن الْإِحْسَان لَيْسَ لَهُ فِي لذات الْجنان نصيب، فَجعل شرب الْخمر وإدمانها وَعدم التَّوْبَة مِنْهَا مَظَنَّة للغوص، وأدير الحكم عَلَيْهَا، وَخص من لذات الْجنان الْخمر، ليظْهر تخَالف اللذتين بادئ الرَّأْي، وَأَيْضًا أَن النَّفس إِذا انهمكت فِي اللَّذَّة البهيمية فِي ضمن فعل تمثل هَذَا الْفِعْل عِنْدهَا شبحا لتِلْك اللَّذَّة يتذكرها بتذكرها، فَلَا يسْتَحق أَن تتمثل اللَّذَّة الاحسانية بصورتها، وَأَيْضًا فَأمر الْجَزَاء على الْمُنَاسبَة، فَمن عصى بالاقدام على شَيْء فَجَزَاؤُهُ أَن يؤلم يفقد مثل تِلْكَ اللَّذَّة عِنْد طلبه لَهَا واستشرافه عَلَيْهَا

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" إِن على الله عهدا لمن شرب الْمُسكر أَن يسْقِيه من طِينَة الخبال وطينة عصارة أهل النَّار ".

أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الْقَيْح وَالدَّم أقبح الْأَشْيَاء السيالة عندنَا وأحقرها

واشدها نعزة بِالنِّسْبَةِ للطبائع السليمة، وَالْخمر شَيْء سيال فَنَاسَبَ أَن يتَمَثَّل مَقْرُونا بِصفة الْقبْح فِي صُورَة طِينَة الخبال وَذَلِكَ كَمَا قَالُوا فِي الْمُنكر والنكير: إنَّهُمَا إِنَّمَا كَانُوا أزرقين لِأَن الْعَرَب يكْرهُونَ الزرقة، وَقد ذكرنَا أَن بعض الوقائع الْخَارِجَة بِمَنْزِلَة الْمَنَام فِي ذَلِك

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شرب الْخمر لم يقبل الله لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ صباحا فان تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ ".

أَقُول: السِّرّ فِي عدم قبُول صلَاته أَن ظُهُور صفة الْبَهِيمَة وغلبتها على الملكية بالإقدام على الْمعْصِيَة اجتراء على الله وغوص نَفسه فِي حَالَة رذيلة تنَافِي الْإِحْسَان وتضاده، وَيكون سَببا لفقد اسْتِحْقَاق أَن تَنْفَع الصَّلَاة فِي نَفسه نفع الْإِحْسَان وَأَن تنقاد نَفسه للحالة الإحسانية.

<<  <  ج: ص:  >  >>