للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْفَاسِدَة الَّتِي يغلب عَلَيْهَا نفوس السبعية، وَيكون لَهُم تمنع شَدِيد إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة الْأكلَة فِي بدن الْإِنْسَان لَا يَصح الْإِنْسَان إِلَّا بِقطعِهِ، وَالَّذِي يتَوَجَّه إِلَى إصْلَاح مزاجه وَإِقَامَة طَبِيعَته لَا بُد لَهُ من الْقطع، وَالشَّر الْقَلِيل إِذا كَانَ مفضيا إِلَى الْخَيْر الْكثير وَاجِب فعله، وَلَك عَبدة بِقُرَيْش وَمن حَولهمْ من الْعَرَب كَانُوا بعد خلق الله عَن الاحسان وأظلمهم على الضُّعَفَاء، وَكَانَت بَينهم مقاتلات شَدِيدَة، وَكَانَ بَعضهم يأسر بَعْضًا، وَمَا كَانَ أَكْثَرهم متأملين فِي الْحجَّة ناظرين فِي الدَّلِيل فجاهدهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَقتل أَشَّدهم بطشا وأحدهم نفسا حَتَّى ظهر أَمر الله، وانقادوا لَهُ، فصاروا بعد ذَلِك من أهل الْإِحْسَان، واستقامت أُمُورهم، فَلَو لم يكن فِي الشَّرِيعَة جِهَاد أُولَئِكَ لم يحصل اللطف فِي حَقهم.

وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى غضب على الْعَرَب والعجم، وَقضى بِزَوَال دولتهم وكبت ملكهم، فنفث فِي روع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبواسطته فِي قُلُوب أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أَن يقاتلوا فِي سَبِيل الله؛ ليحصل الْأَمر الْمَطْلُوب، فصاروا فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الْمَلَائِكَة تسْعَى فِي إتْمَام مَا أَمر الله تَعَالَى، غير أَن الْمَلَائِكَة تسْعَى من غير أَن يعْقد فيهم قَاعِدَة كُلية، والمسلمون يُقَاتلُون لأجل قَاعِدَة كُلية علمهمْ الله تَعَالَى، وَكَانَ علمهمْ ذَلِك أعظم الْأَعْمَال، وَصَارَ الْقَتْل لَا يسند إِلَيْهِم إِنَّمَا يسند إِلَى الْآمِر، كَمَا يسند قتل العَاصِي إِلَى الْأَمِير دون السياف، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:

{فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ} .

وَإِلَى هَذَا السِّرّ أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ:

" مقت عربهم وعجمهم " الحَدِيث، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا كسْرَى وَلَا قَيْصر " يَعْنِي المتدينين بدين الْجَاهِلِيَّة.

وفضائل الْجِهَاد رَاجِعَة إِلَى أصُول: مِنْهَا أَنه مُوَافقَة تَدْبِير الْحق وإلهامه، فَكَانَ السَّعْي فِي إِتْمَامه سَببا لشمُول الرَّحْمَة، وَالسَّعْي فِي إِبْطَاله سَببا لشمُول اللَّعْنَة، والتقاعد عَنهُ فِي مثل هَذَا الزَّمَان تفويتا لخير كثير.

وَمِنْهَا أَن الْجِهَاد عمل شاق يحْتَاج إِلَى تَعب وبذل مَال ومهجة وَترك الأوطان والأوطار، فَلَا يقدم عَلَيْهِ إِلَّا من أخْلص دينه لله وآثر الْآخِرَة على الدُّنْيَا، وَصَحَّ اعْتِمَاده على الله.

وَمِنْهَا أَن نفث مثل هَذِه الداعية فِي الْقلب لَا يكون إِلَّا بتشبه الْمَلَائِكَة، وأحظاهم بِهَذَا الْكَمَال أبعدهم عَن شرور البهيمية وأطرفهم من رسوخ الدّين فِي قلبه، فَيكون مُعَرفا لِسَلَامَةِ صَدره.

<<  <  ج: ص:  >  >>