بِصِفَات يُشَارك فِيهَا الْأَجْسَام المعدنية، كالطول وَعظم الْقَامَة، فَإِن كَانَت السَّعَادَة هَذِه، فالجبال أتم سَعَادَة، وصفات يُشَارك فِيهَا النَّبَات كالنمو الْمُنَاسب وَالْخُرُوج إِلَى تخاطيط جميلَة وهيآت ناضرة، فَإِن كَانَت السَّعَادَة هَذِه فالشقائق والأوراد أتم سَعَادَة، وصفات يُشَارك فِيهَا الْحَيَوَان، كشدة الْبَطْش وجهورية الصَّوْت وَزِيَادَة الشبق وَكَثْرَة الْأكل وَالشرب ووفور الْغَضَب والحسد، فَإِن كَانَت السَّعَادَة هَذِه فالحمار أتم سَعَادَة، وصفات يخْتَص بهَا الْإِنْسَان كالأخلاق المهذبة والارتفاقات الصَّالِحَة والصنائع الرفيعة والجاه الْعَظِيم، فبادئ الرَّأْي أَنَّهَا سَعَادَة الْإِنْسَان، وَلذَلِك ترى كل أمة من أُمَم النَّاس يسْتَحبّ أتمهَا عقلا وأسدها رَأيا أَن يكْتَسب هَذِه، وَيجْعَل مَا سواهَا كَأَنَّهَا لَيْسَ صِفَات مدح، وَلَكِن الْأَمر إِلَى الْآن غير منقح لِأَن أصل هَذِه مَوْجُود فِي أَفْرَاد الْحَيَوَان، فالشجاعة أَصْلهَا الْغَضَب وَحب الانتقام والثبات فِي الشدائد والإقدام على المهالك، وَهَذِه كلهَا موفرة فِي الفحول من الْبَهَائِم، لَكِن لَا تسمى شجاعة إِلَّا بعد مَا يهذبها فيض النَّفس النطقية، فَتَصِير منقادة للْمصْلحَة الْكُلية منبعثة من دَاعِيَة معقولة، وَكَذَلِكَ أصل الصناعات مَوْجُود فِي الْحَيَوَان كالعصفور الَّذِي ينسج العش، بل رب صَنْعَة يصنعها الْحَيَوَان بطبيعته لَا يتَمَكَّن مِنْهَا الْإِنْسَان بتجشم، كلا بل الْحق أَن هَذِه سَعَادَة بِالْعرضِ وَأَن السَّعَادَة الْحَقِيقَة هِيَ انقياد البهيمية للنَّفس النطقية، وَاتِّبَاع الْهوى لِلْعَقْلِ، وَكَون النَّفس الناطقة قاهرة على البهيمية وَالْعقل غَالِبا على الْهوى وَسَائِر الخصوصيات ملغاة.
وَاعْلَم أَن الْأُمُور الَّتِي تشبك بالسعادة الْحَقِيقِيَّة على قسمَيْنِ: قسم هُوَ من بَاب ظُهُور فيض النَّفس النطقية فِي المعاش بِحكم الجبلة، وَلَا يُمكن أَن يحصل الْخلق الْمَطْلُوب بِهَذَا الْقسم، بل رُبمَا يكون الغوص فِي تِلْكَ الْأَفْعَال بزينتها لَا سِيمَا بفكر جزئي كَمَا هُوَ شَأْن النَّاقِص ضد الْكَمَال الْمَطْلُوب، كَالَّذي يقْصد تَحْصِيل الشجَاعَة بإثارة الْغَضَب والمصارعة وَنَحْو ذَلِك، أَو الفصاحة بِمَعْرِِفَة أشعار الْعَرَب وخطبهم، والأخلاق لَا تظهر إِلَى عِنْد مزاحمات من نَبِي النَّوْع، والارتفاقات لَا تقتنص الابحاجات طارئه، والصنائع لَا تتمّ إِلَّا بآلات ومادة، وَهَذِه كلهَا منقضية بِانْقِضَاء الْحَيَاة الدُّنْيَا، فَإِن مَاتَ النَّاقِص فِي تِلْكَ الْحَالة، وَكَانَ سمجا بَقِي عَارِيا عَن الْكَمَال وَإِن لزق بِنَفسِهِ صور هَذِه العلاقات كَانَ الضَّرَر عَلَيْهِ أَشد من النَّفْع،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute