للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأرض (١) ، تُجمع فيها المياه، كما يعملون له آنية يُطبخ فيها، وهي - من عظم اتساعها - ثابتات في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك، حيث إن ركائز هذه القدور هي جزء منها، فلا حاجة لنقلها وتثبيتها!!

هذا الملك العظيم، الذي وهبه الله لنبيِّه سليمان عليه السلام كان سببه شرع سليمان عليه السلام الحق، ونبوته العظيمة، لا السحر كما تقولته الشياطين واتبعته اليهود، فقد امتن الله عليه بتلك الهبة الربانية، التي يتصرف بها سليمان عليه السلام كيف يشاء، [ص: ٣٩] {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ *} .

وهنا مسألة: هل كان هذا العطاء الإلهي حِجْرًا على سليمان عليه السلام، فلا يوهب لأحد من بعده، أو لا يوهب ما يوازيه أو يزيد عليه؟

قال بعضهم: معنى قوله تعالى: [ص: ٣٥] {لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} . أي: لا يصلح لأحد أن يسلبنيه، كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيّه، لا أنه يُحجر على مَن بعدَه من الناس. والصحيح أنه سأل من الله مُلْكًا لا يكون لأحد من البشر مثلُه من بعده، وهذا هو ظاهر السياق من الآية، وبه وردت الأحاديث من طُرُقٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (٢) .


(١) الجَوْبة من الأرض: ما يستنقع فيها الماء، فهي كالحياض التي تردها الإبل من عِظَمها. انظر: تفسير الطبري (١٢/٨٩) .
(٢) انظر: تفسير القرآن العظيم، للإمام ابن كثير رحمه الله. ص١٤٦٩ ط - بيت الأفكار. وانظر: كذلك: الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي رحمه الله (١/٤٣) .

أما الأحاديث التي وردت من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهي تثبت أن سليمان عليه السلام قد سأل الله مُلكًا لا يكون لأحد من البشر مثله من بعده - فعديدة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إن عفريتًا من الجنّ تفلّت عليَّ البارحةَ، ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني اللهُ منه، وأردتُ أن أربطَه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلُّكم، فذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فردّه خاسئًا. متفق عليه، البخاري (٤٨٠٨) ، ... ومسلم (٥٤١) . وعند أحمد في مسنده (٣/٨٢) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلّي صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلمّا فرغ من صلاته قال: لو رأيتموني وإبليسَ، فأهويتُ بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْد لُعابه بين إصبعيّ هاتين - الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحدٌ فليفعل» . والحديث صحّحه - بشواهده - الألبانيُّ. انظر: الصحيحة برقم (٣٢٥١) . ومن ذلك أيضًا ما أخرجه أحمد في مسنده (٢/١٧٦) ، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «إن سليمان بن داود عليهما السلام، سأل الله ثلاثًا أعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون له الثالثة، فسأله حُكمًا يُصادِف حكمَه، فأعطاه الله إياه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد - أي بيت المقدس - خرج من خطيئته مثلَ يوم ولدته أمّه، فنحن نرجو أن يكون الله عزّ وجلّ قد أعطاه إياه» . والحديث أخرجه أيضًا من حديث ابن عمرو: النسائي (٢/٣٤) ، وابنُ ماجه (١٤٠٨) ، وصحّحه ابن خزيمة، وابن حِبّان، والحاكم ووافقه الذهبي. رحم الله الجميع.

<<  <   >  >>