للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما كفر سليمان بعمل السحر ولكن الشياطين هم الذين كفروا بافترائهم ذلك، وتعليمهم السحر للناس، وتعليمهم أيضًا ما أُلهِم الملكين ببابل (١) هاروت وماروت (٢) وعُلِّماه - فتنة واختبارًا للناس - من سحر التفريق.


(١) بابِل المذكورة في الآية، هي بابل العراق، - كما اختاره الإمام ابن كثير في تفسيره، لا بابل دُنْبَاوَنْد - كما ذكره الإمام الطبري عن السُّدِّي رحمه الله، في تفسيره [١/٥٠٤] ، وقد حدّد الإمام ابن كثير بدقة متناهية موضع بابل من العراق! فقال رحمه الله: [وقال أصحاب الهيئة: وبُعد ما بين بابل - وهي من إقليم العراق - عن البحر المحيط الغربي، ويقال له: أوقيانوس: سبعون درجة، ويسمّون هذا طولاً، وأما عرضها وهو بُعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب، وهو المسامت - أي: المقابل والموازي - لخط الاستواء: اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم] . اهـ. انظر: تفسير ابن كثير ص١٢٨، ط - بيت الأفكار.

وأصحاب الهيئة، هم: المشتغلون بعلم الهيئة - أي علم الفلك -[وهو (علم يُبْحَث فيه عن أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسُّفلية، من حيث الكمية والكيفية والوضع والحركة اللازمة لها وما يلزم منها] انظر: موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون. للعلاّمة محمد التهانوي [١/٦١] .
وذكر الحَمَوي في معجم البلدان [١/٣٦٧] أن بابل - بكسر الباء - اسم ناحيةٍ من الكوفة والحِلَّة، ينسب إليها السحر والخمر. وبابل هي غير (بَابِلْيون) ، التي هي اسمٌ عام لديار مصرَ بلغة القدماء وأهل الكتاب كما ذكره الحَمَويُّ ايضًا [١/٣٧٠] .
أما سبب تسمية بابل، فذكر القرطبي [٢/٥٣] (عن ابن عبد البر أنه قال: أخصر وأحسن ما قيل في ذلك ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نوحًا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجُودِيّ ابتنى قرية وسمّاها ثمانين، فاصبح ذات يوم، وقد تَبَلْبَلَتْ ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض) .
أما دُنْبَاوَنْد فذكر الحموي في معجم البلدان [٢/٥٤١] أنها لغة في دُبَاوند، وهو جبل - من نواحي الرَّيِّ - عالٍ مشرف شاهق شامخ، لا يفارق أعلاه الثلج شتاءً ولا صيفًا، وزعم العامّة أن سليمان ابن داود عليهما السلام قد حبس فيه ماردًا من مردة الشياطين، يقال له: صخرٌ المارد.
(٢) ذكر القرطبي [٢/٥٣] أنهما اسما عَلَم على المَلَكين، وهما أعجميان لا ينصرفان، والجمع: هَوَاريت ومَوَاريت، مثل طواغيت، ويقال: هَوَارتة وهَوَار، ومَوَارتة ومَوَار، ومِثْلُه جالوت وطالوت.

[وقد كان إنزال الملكين هاروت وماروت للتمييز بين السحر وبين المعجزة، التي هي أمر خارق للعادة يظهر على يد النبيِّ، حيث كَثُر السحر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة من الأمور الغريبة ما يُوقِع الشكَّ في النبوَّة، فبعث الله هذين الملكين لتعليم أبواب السحر، ... حتى يزيلا الشُّبَه، ويميطا الأذى عن الطريق. والظاهر: أنهما نزلا بصورة آدميةٍ، ولا بُعْدَ في ذلك، فقد كان جبريل عليه السلام ينزل بصورة دحية الكلبي، وغيره] . انظر: تفسير نور الإيمان للشيخ محمد مصطفى أبي العلا ص ١٤٧.
أما ما ورد في شأن قصة هاروت وماروت فقد ذكر ابن كثير في تفسيره [١/١٤٦] بعد أن استوعب جميع المرويّ في ذلك أنه [مع كثرة الروايات عن خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، إلا أن حاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيلَ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمالُ القصةِ، من غير بَسْطٍ ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال] .
لكنْ مع ذلك فإن الإمام ابن حجر رحمه الله ذهب إلى أن لقصة الملكين أصلاً، فقال: [وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يُقضى بمجموعها على أن للقصة أصلاً، خلافًا لمن زعم بطلانها كالقاضي عياض ومن تبعه] . انظر: الفتح (١٠/٢٣٥) .

ولعل سبيل الجمع بين مذاهب أهل العلم في ذلك: أن ما يرويه المفسرون في قصة هاروت وماروت لا يصح رفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك لكونه لم يستجمع شروط الصحيح، المُصطلَح عليها عند أهل الحديث، ولكون تفصيلاتها من جملة أخبار بني إسرائيل، التي لا يعوّل عليها، لذا فقد أنكرها جمعٌ من ثقات الأئمة وعلماء الإسلام، كالقاضي عياض، والفخر الرازي، والشهاب العراقي، والإمام ابن كثير، والعلاّمة الآلوسي والأستاذ سيد قطب رحم الله الجميع، إلا أن كثرة المروي في ذلك، واستفاضة طرقه، يشير بوضوح - حسبما يرى الإمام ابن حجر رحمه الله - إلى أن للقصة أصلاً، لكن غاية ما هنالك أنهم لم يجيزوا تصحيح رفعها عند من أنكرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتصروا على ما في القرآن مجملاً على ما أراده الله تعالى، والله أعلم.

<<  <   >  >>