المحدثين وشُرّاح الحديث لم يَدَعوا لمثل ذلك مسلكًا للطعن في صحة الأحاديث، حيث إنهم يعمدون إلى الجمع بين الروايات؛ إما بترجيح إحداها لمزيد ضبط الراوي لها ورسوخ قدمه في الإتقان في جملة الرواية وتأديته لها، أو بحمل المراد من اللفظ العام في رواية على ما جاء من لفظ خاص في أخرى، أو باحتمال تكامل المعاني في ألفاظ الروايات، أو بجعل الاختلاف في بعض الألفاظ ناشئًا من رواية الحديث بالمعنى، بما لا يغير المعنى المقصود، وهذا جارٍ من سنّة المحدثين، ولا يقدح ذلك في صحة الحديث. والمعوّل عليه عندهم: هو العمل على الجمع بين الروايات، فإن أمكن الجمع فلا مسوّغ عندها لرد الحديث أو تضعيفه. وهاك - إن شئت - مصداق ذلك في متن الحديث الذي بين أيدينا، فالجفّ والجبّ بمعنىً، وهو: وعاء الطلعة - كما سبق بيانه في موضعه - (وذروان) هي عينُها (ذي أروان) ، والمشاطة هي المشاقة، حيث تبدل القاف من الطاء لقرب مخرجهما.
أما استخراج عمل السحر الذي ثبت في بعض الروايات، وانتفى حصوله في بعضها، فإنه يمكن الجمع بين الأمرين على أن الاستخراج حصل حتى رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعَلِمه، لكن الاستخراج المنفي، والذي كره رسول الله صلى الله عليه وسلم حصوله، وهو الذي طلبته السيدة عائشة، فذاك استخراج ما وقع به السحر من جف الطلعة وما حواه ذلك الجف، ثم إظهاره للناس حتى يعاينوه، فكَرِه صلى الله عليه وسلم ذلك الاستخراج لما قد يثيره من فتنة بين المسلمين الغاضبين من جهةٍ، وبين قوم الساحر (بني زريق) ويهود مِن بعدِهم من جهة أخرى، فيُهراق دم كثير بسبب ذلك، والحال أن الله تعالى قد أحدث الشفاء لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، فلا داعي إذًا لإخراج السحر كيما يعاينه الناس، مع علمه صلى الله عليه وسلم بما في معاينة الناس لهذا السحر من كشف للساحر، ومعرفة شدة عداوته وقومه ومن وراءهم، ومع ما فيه كذلك من مصلحةٍ في التحذير من أمر السحر وبيان قبحه، لكنْ - وكما هو مقرر - فإن درء المفسدة مقدّم على جلب