للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والقصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان، ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له، وتثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل.

وفي القصة هنا تمثيل لسوأة الجريمة في صورتها الحسية، صورة جثة فارقتها الحياة، وأصبحت لحما يسري فيه العفن، فهي سوأة لا تطيقها النفوس١.

وشاءت حكمة الله أن تضع القاتل أمام عجزه، فرغم أنه قاتل جبار، إلا أنه عاجز عن أن يواري سوأة أخيه، عاجز عن أن يكون كالغراب في أمة الطير.

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: ٣١] .

ومثال آخر في إبراز المعاني، وإنشاء التصور الصحيح للمنهج الإسلامي في ضمير المسلم عن طريق الحقائق الكونية التي تطالع الأنظار والمدارك كل يوم، نرى ذلك في الحوار الذي دار بين إبراهيم -عليه السلام- وملك من ملوك أيامه يجادله في الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: ٢٥٨] .

فالآية -كما نرى- تمثل مشهدا لحوار إبراهيم -عليه السلام- وأحد الملوك، والمشهد يعرض على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجماعة المسلمين من خلال التعبير القرآني العجيب.

وهذا الملك الذي يجادل إبراهيم في ربه، ليس منكرا لوجود الله أصلا، إنما هو منكر لوحدانيته ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده، كما كان الحال لدى بعض الناس في الجاهلية؛ يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له أندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .

فالإحياء والإماتة ظاهرتان معروضتان لحس الإنسان وعقله في كل يوم وكل لحظة، فرد الملك على إبراهيم قائلا: أنا سيد هؤلاء القوم، وأنا المتصرف في شأنهم فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له، وتسلم بحاكميته:

{قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} .

وعندئذ عدل إبراهيم عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .. إلى طريقة التحدي، حتى يعرف الملك أن


١ انظر: سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، ج٦، ص٨٧٧.

<<  <   >  >>