الرب ليس حاكم قوم ما، في ركن من أركان الأرض، وإنما هو مصرف هذا الكون كله: قال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} .. وهذه حقيقة كونية تطالع الأنظار والمدارك كل يوم دون تخلف أو تأخر، وهو تحد يخاطب الفطرة، ويتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل:{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} .
والمثال القادم هو مشهد حي مرسوم بالكلمات، والمشهد تجسيد لمشاعر رجل مر على قرية محطمة، فجال في شعوره سؤال حائر: كيف تدب الحياة في هذا الموات؟ {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: ٢٥٩] .
إن المشهد هنا ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا، مشهد الموت والبلى والخواء.. يرتسم بالوصف {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} محطمة على قواعدها، ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية، هذه المشاعر المتجسمة في تعبيره:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} كيف تدب الحياة في هذا الموات؟
لم يقل له كيف، إنما أراه في عالم الواقع كيف، فالمشاعر قوية، وعنيفة لدرجة أنها لا يجب أن تعالج بالبرهان العقلي.. وإنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلئ بها الحس ويطمئن بها القلب، دون كلام!
وتبعا لطبيعة التجربة، وكونها تجربة حسية واقعية، فلا بد أن تكون هناك آثار محسوسة تصور مرور مائة عام، هذه الآثار لم تكن إلا في طعام الرجل وشرابه، فلم يكونا آسنين متعفنين:{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} .