للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لقد تعرت وتفسخت عظام الحمار، ثم كانت الخارقة هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض، وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسسه البلى، ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن، ليكون هذا التباين في المصائر، والجميع في مكان واحد، معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة، آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد، وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها١!

ثم تجيء تجربة إبراهيم مع ربه:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: ٢٦٠] .

إن هذا السؤال من إبراهيم لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله في نفسه، وليس طلبا للبرهان أو تقوية الإيمان، بل هو تشوق إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} إنه الشوق إلى رؤية السر الإلهي أثناء وقوعه العملي، لقد أراد إبراهيم أن يرى يد القدرة وهي تعمل "ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيتروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها"٢، لم يكن السؤال إذا من أجل تأكيد الإيمان، فقد كان الله يعلم حقيقة الإيمان لدى عبده وخليله إبراهيم، ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع من قلب إبراهيم، ومنحه التجربة المباشرة، أو الخبرة المباشرة: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

لقد أمر الله إبراهيم أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن منه, وينظر إليهن ليتأكد من أشكالهن وصفاتهن ومميزاتهن بحيث لا يخطئ في التعرف عليهن بعد ذلك، وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة، ثم يدعوهن، فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى، وترتد إليهن الحياة، ويعدن إليه ساعيات.. ففعل، وقد كان.

لقد رأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه، طيور فارقتها الحياة، وتفرقت أجزاؤها في أماكن متباعدة، تدب فيها الحياة مرة أخرى، وتعود إليه سعيا، وهو سر نحن نرى آثاره بعد تمامه كل يوم، ولكننا لا ندرك طبيعته، ولا نعرف طريقته، إنه أمر الله٣.


١ المرجع السابق، جـ٣، ص٣٠.
٢ المرجع السابق، ص٣٠٢.
٣ المرجع السابق.

<<  <   >  >>