للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأن تعلو كفة الفرس وأن يشعروا شعورًا قويًّا بقوميتهم؛ إذ أصبح النفوذ في أغلبه لهم، واستطاعت أسرة من أسرهم، وهي أسرة البرامكة أن تحتفظ بالوزارة أعوامًا طويلة من القرن الثاني، وكان لها أثر عظيم في حياة الجماعة، إذا عملت على إشاعة التقاليد الفارسية في الحكم، وشجعت على نقل آداب قومهم إلى العربية. وخلفهم بنو سهل في عهد المأمون، وهم فرس أيضًا، ويمضي العصر العباسي إلى خلافة المعتصم فارسيًّا، حتى يُخرج هذا الخليفة أمر الجيش من أيدي الفرس؛ فجلب له جنودًا من الترك ويبني لهم سامرَّا "سُرَّ مَنْ رَأَى". على أن العنصر العربي ظل ممثلًا بقوة، في الخلفاء العباسيين وفي الدين الإسلامي واللغة العربية وفي بعض الأفراد من الوزراء والولاة والقواد أمثال يزيد بن حاتم المهلبي ومعن بن زائدة ويزيد بن مزيد وحُمَيد الطوسي وأبو دُلَف العجلي؛ ولكن مما لا شك فيه أن الأعاجم كانوا متفوقين طوال العصر العباسي الأول، فوقفوا من العرب نفس الموقف الذي كانوا يقفونه منهم في عصر بني أمية.

وهنا نجد مشكلة المساواة بين الموالي والعرب تثار في نطاق واسع تحت اسم الشعوبية، وكان واضحًا أن الموالي يسبقون العرب في العلم، إذ كان منهم أكثر العلماء لا في العصر العباسي وحده، بل منذ العصر الأموي، وطبعًا كانوا يسقونهم في الزراعة والحرف المختلفة، وهم اليوم يسبقونهم في السياسة، وأخذت الدولة تفيد فائدة واسعة من النظم الساسانية القديمة، كما أخذت تنظم ترجمة الثقافات الأجنبية. وأصبحت كثرة الأدباء كتّابًا وشعراء من الموالي وخاصة الفرس؛ إذ كان ابن المقفع أكبر كتّاب عصره فارسيًّا، وكذلك كان بشار بن برد زعيم المجددين في الشعر. كذلك هَيَّأ لفتح هذا الباب الكبير: باب الشعوبية، وواضح من اسمها أنها تبحث في فضائل الشعوب وأيها يتقدم غيره من الأمم، وقد تحولوا بها من المساواة التي كانوا يريدونها بينهم وبين العرب إلى إثبات أنهم فوقهم وأفضل منهم، وانبرى لذلك جماعة من علمائهم جعلوا همهم الحط من شأن العرب في جاهليتهم بما كانوا فيه من البداوة والفظاظة ولبعدهم عن أسباب المدنية والحضارة، ووضعوا كثيرًا من الكتب في

<<  <   >  >>