للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نزعة إلى تقليدهم في ذلك الميدان حتى يثبتوا لهم وللغويين أنهم يتفقون عليهم، حتى في تلك الصناعة البدوية المسرفة في البداوة. روى صاحب الأغاني: "أن بشارًا دخل على عقبة بن سَلْم "والي البصرة" فأنشده بعض مدائحه فيه، وعنده عقبة بن رؤبة ينشده رجزًا يمدحه به؛ فسمعه بشار، وجعل يستحسن ما قاله إلى أن فرغ. فأقبل على بشار، فقال: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ، فقال له بشار: أليّ يقال هذا؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدك "يقصد العجاج" فقال له عقبة: أنا والله وأبي فتحنا للناس باب الغريب وباب الرجز، والله إني لخليق أن أسده عليهم، فقال بشار: ارحمهم رحمك الله، فقال عقبة: أتستخف بي يا أبا معاذ وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ فقال له بشار: فأنت إذن من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، ثم خرج من عند عقبة "بن سلم" مغضبًا؛ فلما كان من غَدٍ غَدَا على عقبة، وعنده عقبة بن رؤبة، فأنشده أرجوزته التي يمدحه فيها:

يا طللَ الحيّ بذات الصّمْدِ ... بالله خَبِّرْ كيف كنت بعدي

ومضى يرجز ويتكلف للغريب يمزجه بشيء من الحاضرة ودقة الحس والفكر وجمال الصياغة. فطرب عقبة بن سلم وأجزل صلته وانكسر عقبة بن رؤبة انكسارًا شديدًا١، وليس بشار وحده الذي أثبت أنه يستطيع التفوق على شعراء البادية في أرجازهم الملوءة بالغريب؛ فقد تبعه أبو نواس يحاول أن يهزمهم هزيمة ساحقة في هذا الميدان، وكان أبو نخيلة قد سبقه إلى صنع أراجيز كثيرة في الطرد والقنص٢، يصف فيها الصيد والكلاب والوحش وحيوان الصحراء على طريقة القدماء فصنع على مثال طردياته طرديات جديدة أظهر فيها براعة وتفوقًا منقطع النظير، حتى ليقول الجاحظ في تقديمه لطائفه منها: "وأنا كتبت لك رجز أبي نواس في هذا الباب لأنه كان عالِمًا راوية.. وصفات الكلاب مستقصاه في أراجيزه، هذا مع


١ أغاني "طبعة دار الكتب" ٣/ ١٧٤، وانظر طبقات الشعراء لابن المعتز ص٢٥ وما بعدها.
٢ طبقات الشعراء لابن المعتز ص٦٦.

<<  <   >  >>