للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فريق آخر يعتد بسلامة ذوقه، ويحمل عليهم ويهجوهم هجاء مرًّا١.

والحق أن هؤلاء العلماء كا نوا حرَّاسًا أمناء على العربية، وضعوا قواعدها ودقائقها، وجمعوا شعرها الدقيق، واتخذوه مثلًا أعلى للفصاحة والبيان، وظلوا يذودون عنها ذيادًا قويًّا متعصبين للجاهليين تعصبًا شديدًا؛ فهم الشعراء حقًّا وغيرهم عالة عليهم، بل لقد أهدروا شاعرية معاصريهم ولم يجعلوا لشعرهم حرمة ولا فضلًا، إن قالوا حسنًا فقد سُبقوا إليه وإن قالوا قبيحًا فمن عندهم٢، ومنعوا الاحتجاج بشعرهم فهم لا يحتجون في مسائلهم النحوية واللغوية إلا بعرب البادية. وارجع إلى كتاب سيبويه، عمدة النحو والنحاة، فستجده دائمًا ينقل عن فصحاء العرب ومن تُرْضَى عربيتهم ولا يسوق شاهدًا لشاعر محدث. وقد ظلوا يرحلون إليهم، ويأخذون عنهم شفاهًا شواهدَهم وأمثلتهم، وفي الوقت نفسه أخذ كثير من عرب البادية يرحلون إلى الكوفة والبصرة وبغداد ليعرضوا تجارتهم اللغوية التي كانوا يروجها العلماء، كما كان يروجها الخلفاء وكبار رجال الدولة.

وبذلك ظلت النماذج البدوي حية في تلك الحقب التي تطور فيها الشعر في مدن العراق بتأثير العلاقات الاجتماعية والحضارية النامية؛ فقد نصب اللغويون تلك النماذج مثلًا أعلى للشعر الفصيح، وروَّجوا لها في البلاد ومجالس الوزراء. وبذلك أصبح هناك ضربان واضحان من الشعر: ضرب بدوي يتمسك بالتقاليد القديمة، وضرب حضاري ينفك قليلًا أو كثيرًا عن تلك التقاليد حتى يساير العصر.

وأخذ أصحاب الضرب الأول يكثرون في شعرهم من الغريب؛ حتى يجد فيه اللغويون ما يسد حاجتهم في البحث والدراسة من الشواهد والأمثال، وكانوا يؤلفونه غالبًا من الرجز، على نحو ما هو معروف عن أبي نخيلة والعماني ورؤبة وابنه عقبة. وكانوا يُدِلُّون بنماذجهم تلك على شعراء المدن، فبعثوا فيهم


١ أغاني "طبعة دار الكتب" ٣/ ٢١٠، وديوان أبي نواس ١٧٥، ١٧٦.
٢ أغاني "طبعة الساسي" ١٦/ ١٠٩.

<<  <   >  >>