فلما وضع العرب أيديهم على تلك البيئات كلها أخذ كثير مما فيها من ثقافة يتحول إليهم بحكم ما كان يقتضيه دفاعهم عن دينهم وبحكم ما أصاب حياتهم من تطور؛ فقد أصبحوا أصحاب دولة متحضرة، تحتاج إلى كثير من العلوم التطبيقية النفعية، وأخذت الأمم المجاورة لهم تدخل في دينهم وتدخل معها معارفها وكل ما ورثته من الثقافة الهيلينية التي انتشرت في الشرق منذ فتوح الإسكندر، وكان مزيجًا من فلسفة اليونان ومن ديانات الشرق وحكمته، ولا نصل إلى العصر العباسي، حتى تنظم الترجمة، ويقبل السريان على نقل كل ما شاع بينهم وفي مدارسهم بالعراق وجنديسابور من معرفة وعلم وفلسفة، كما يقبل الفرس والهنود أيضًا على نقل كثير من تراثهم.
وعني المنصور بهذه الحركة من الترجمة؛ فجلب من جنديسابور آل بختيشوع الأطباء المشهورين، فشاركوا توًّا في الترجمة، ووفد عليه من الهند "منكه" وكان قيمًا بالحساب المعروف "بالسند هند" في حركات الفلك والنجوم؛ فأمره بتجرمته، وشاركه في هذه الترجمة إبراهيم الفزاري يعاونه جماعة من العلماء. وعهد المنصور أيضًا إلى أبي يحيى البطريق ترجمة أجزاء من كتب بقراط وجالينوس في الطب. ونحن لا ننسى رأس هؤلاء المترجمين جميعًا ابن المقفع الذي ترجم عن الفارسية بعض الكتب التاريخية والسياسية والأدبية، كما ترجم أجزاء من منطق أرسطوا وكتاب كليلة ودمنة الذي يرجع إلى أصول هندية. وأيضًا فإنه ترجم كتابًا من مزدك، أحد دعاة الفرس الدينيين، ويظهر أنه أدخل كثيرًا من تعاليم المجوسية، ومما لا ريب فيه أن كتاب زرادشت المسمى أفستا ترجم في أوائل هذا العصر، كما ترجمت كتب ماني؛ مما كان سببًا في ارتفاع موجة الزندقة، وكان هناك فرس كثيرون خلفوا ابن المقفع على ترجمة التراث الفارسي من أهمهم آل نوبخت.
ونمضي إلى عصر الرشيد؛ فينشئ خزانة الحكمة وإدارة للترجمة يقيم يوحنا بن ماسويه أمينًا عليها ويرتب له كما يقول القفطي كُتَّابًا حاذقين يكتبون بين