وأحاسيس؛ فإذا بنا إزاء عصر جديد، وهو عصر لا ينقطع فيه الصلة بين ماضي الشعر وحاضره، فقد وضع الشاعر العباسي نُصْبَ عينيه نموذج الشعر القديم وحول كل ما يتضمنه هذا النموذج من معانٍ وصور إلى عصره، وأضاف إليها حشودًا من معانٍ وصور جديدة وألف من ذلك كله نموذجه الحديث.
وتختلف صلة هذا النموذج بالنموذج القديم سعة وضيقًا، فهو في المديح والشعر الرسمي أقرب إلى القديم منه في شعر الغزل والخمر والمجون، وبذلك يستمر فيه أو بعبارة أدق في مدائحه الحديث عن الأطلال ووصف الصحراء وما يتصل بها من رحلة وصيد، وحتى هو في الموضوعات ذات الصبغة الجديدة كالخمريات يستمد مما قاله القدماء. ومعنى ذلك أن الشعراء كانوا يجددون؛ ولكن مع ضرب من التوازن، فهم لا ينسون القديم، بل هم يعكفون عليه محاولين أن يستنفدوا دِنانه، وكأنه يشبه -عندهم- الخمر المعتقة التي كانوا يشغفون بها.
ويخيَّل إلى الإنسان كأنما أحال الشاعر العباسي الشعر القديم إلى ما يشبه تلك الجذاذات التي يجمعها العلماء حين يريدون أن يبحثوا موضوعًا ويستقصوه استقصاء، ومن الحق أن استقصاءهم كان عميقًا؛ فهو استقصاء فيه جِدّ وصرامة، وفيه غير قليل من المصاعب والمتاعب، فهم لا ينظمون الشعر إلا بعد أن يحفظوا آلاف القصائد ومئات الأراجيز وإلا بعد أن يستظهروا ذخائر الشعراء الجاهليين والإسلاميين. ومن غير شك يرجع الفضل في ذلك إلى اللغويين الذين جمعوا لهم مادة الشعر القديم ووضعوها تحت أعينهم مفسّرة مشروحة.
وقد أشاعوا بينهم تلك العقيدة التي ثبتت في الأذهان تفوق الشعر الجاهلي وأنه مثل أعلى خليق بالشاعر العباسي أن يجاريه. وتبعهم الشعراء يدرسون هذا الشعر ويحاولون بكل ما يستطيعون أن يحاكوه، وكأنما رأوا حيوية كامنة في روحه تجعله خليقًا بالبقاء والمحاكاة، وأثبتوا في مهارة أنهم جديرون بالقيام على تراثه النفيس واستغلاله واستنفاد طاقاته.
وتوضح لنا كتب السرقات مدى هذا الاستنفاد والاستغلال، وكلما مضينا في العصر أضافت الأجيال إلى هذا التراث أعمال المحدثين ممن سبقوهم.