للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنا أحق به منك، وسترى لمن يُرْوَى ثم أنشد بعد أيامٍ خمريةً، يقول فيها:

إذا عَبَّ فيها شاربُ القومِ خِلْتَهُ ... يقبِّل في داجٍ من الليل كوكبا١

وعلى هذا النحو كانوا لا يزالون يجهدون أنفسهم في صناعتهم سواء في معانيها وصورها وفي ألفاظها وصياغاتها، وكان كل منهم ينفس على صاحبه ما يصل إليه من جديد في المعنى أو في الصورة ومن طريف في الصياغة والعبارة، وحقًّا كانوا أجانب في الغالب؛ ولكنهم حذقوا العربية وتحولوا يصوغون منها عقودًا ولآلئ بديعة، وكانوا يعرفون ذلك في أنفسهم وعملهم؛ فقد سأل سائل بشارًا ما صناعتك؟ فأجاب أثقب اللؤلؤ٢، ونظم ذلك شعرًا، فقال يصف نفسه٣:

لله ما راحَ في جوانحه ... من لؤلؤٍ لا ينام عن طَلَبه

يخرجْنَ من فيه في النَّدِيِّ كما ... يخرج ضوء السراج من لهبه

ولعل في ذلك ما يصور -من بعض الوجوه- ما انتهت إليه صنعة الشعر في هذا العصر من رقي وازدهار؛ فقد ارتقى الشعراء به من وجوه كثيرة، من حيث المعاني وما أثاروا من غرائبها، ومن حيث الأحاسيس وما بعثوا من طرائفها، ومن حيث الصياغات وما نسقوا من فرائدها. وسنرى بعد قليل أن ضروب إحسانهم لذلك كله انتهت بهم إلى مذهب جديد هو مذهب التصنيع، ولكن هذا المذهب لم يظهر توًّا، بل أخذ يُعِدّ له جيلان، جيل بشار، وجيل أبي نواس وأبي العتاهية، ونحن نقف عند صنعتهم قليلًا، لنرى مبلغ مهارتهم وحذقهم.


١ زهر الآداب ٢/ ١١٤.
٢ أغاني ٣/ ١٥٩.
٣ عيون الأخبار ٢/ ١٨٢.

<<  <   >  >>