للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإذا لغته أشد ما تكون نقاء، وإذا هذا النقاء يُخْفَى عنا جهدهم في صنعة وما عانوه من تصيُّد صيغه الصوتية لمعانيهم وأحاسيسهم واختيار أثوابه وأبراده الوضَّاحة لأفكارهم ودقائقها الخفية.

والحق أنهم كدحوا طويلًا في معانيهم وصياغاتهم وأخيلتهم وصورهم، حتى يحققوا ما يريدون من تفوق وبراعة، وقد أكبّوا على ينابيع اللغة العذبة ينهلون منها ويستمدون أساليبهم، وقد تَنِدّ فيها بعض ألفاظهم الأعجمية؛ ولكن ذلك يأتي في الندرة وعلى سبيل التظرف والتملح. أما بعد ذلك فهم يتمسكون بالصياغة العربية النقية، ويستخدمون كل وسائلهم في صوغ أساليب تموج بالحيوية والفكر العميق والحس الدقيق في نظام موسيقي رشيق. ولم ينسوا أبدًا أن روعة الصياغة لا تقل عن روعة الفكر والحس جمالًا، وكلنا نعرف قصة غضب بشار على تلميذه سلم الخاسر حين صاغ بيتًا له صياغة جديدة أجمل من صياغته؛ فقد قال بشار:

مَنْ راقب الناسَ لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللَّهِجُ

ولم يكن يسمعه منه سلم، حتى أعجب بمعناه وأخذ يفكر في صياغته صيغة جديدة أعذب وأرشق، وما زال يفكر حتى قال:

من راقب الناس مات غَمًّا ... وفاز باللذة الجسور

ونقل البيت إلى بشار، فحَنِقَ على سلم حنقًا شديدًا١، ولم يكن مصدر هذا الحنق سوى تلك الكسوة اللفظية البديعة التي كسا بها سلم معناه. وكان الشعراء يجتمعون دائمًا لينشد كل منهم خير ما نظم، متنافسين في ذلك متسابقين، وكلما ألَمَّ منهم شاعر بمعنى غريب تداولوه، ونسوق لذلك مثالًا، وهو ما يُرْوَى من أن أبا نواس استمع إلى خمرية للحسين بن الضحاك يقول فيها:

كأنما نُصْبَ كأسه قَمَرٌ ... يَكْرَعُ في بعض أنجم الفَلكِ

فنعر "صاح" نعرة منكرة، فقال له الحسين: مالك قد رعتني؟ قال: هذا المعنى


١ طبقات الشعراء ص١٠٠، وانظر الأغاني ٣/ ١٩٩، ٢٠٠.

<<  <   >  >>