منه أحيانًا ما يعجب ويروع وهم يروون أن الذي بعث أبا نواس على صحبة والبة وأرغبه فيه بيتان سمعهما منه، هما:
ولها ولا ذنبٌ لها ... حُبٌّ كأطراف الرماح
في القلب يجرح دائمًا ... فالقلب مجروح النواحي١
ويمتلئ الأغاني بآلاف المقطوعات الغزلية والتي نظمها هؤلاء الشعراء وأمثالها، وكثير منها يتسم بدقة الذوق ورقة الشعور ولطف الإحساس.
واستوت للخمرية صورتها في هذا العصر، وحقًّا نجد منها نماذج عند الوليد بن يزيد؛ ولكن هذا العصر هو الذي انتهى بها إلى شكلها النهائي؛ سواء من حيث القصر أو من حيث التنويع في معانيها وأخيلتها، ويكفي أنه أنتج أبا نواس أكبر من تغنوا بالخمر وكئوسها وسُاقتها وأديرتها، وكان طبيعيًّا أن تحدث الخمر وما يتصل بها من مجون رد فعل في العصر؛ فإذا شعر الزهد يدور على الألسنة في مقطوعات قصيرة تنفر من المتاع بزخارف الحياة، وتتحدث عن الموت ومصير الإنسان حديثًا يهز النفوس على نحو ما قدمنا في غير هذا الموضع.
وهذه كلها تجديدات من حيث المضمون، أما من حيث الشكل والصيغة فقد مر بنا في الفصل السابق ما استحدثوه من أوزان بتأثير الغناء والموسيقى، وكانوا من أجلهما يؤثرون الأوزان المجزوءة، وشاع ذلك في الغزل والخمر، وعرفوا المخمس والمزدوج، واختار أصحاب الشعر التعليمي القالب الأخير لشعرهم، وكأنما أغراهم به وفرة الموسيقى فيه؛ حتى تتلافى ما في معانيهم من جفاف المعرفة والحكمة.
ومن المؤكد أن الشعراء عانوا كثيرًا في صياغاتهم، حتى وصلوا إلى أسلوبهم الذي يسمى بأسلوب المولدين، وهو أسلوب ناصع شفاف، لا يُعْنَى بالثروة اللغوية من حيث هي؛ وإنما يعنى قبلها بثروة الفكر وباستثارة الوجدان، حتى يعرض المعاني النادرة والأحاسيس الدقيقة. وهو أسلوب ليس فيه ركاكة ولا ابتذال، ومع ذلك فهو أسلوب مبسط استطاعوا بذوقهم الحضري الرقيق أن يحدثوه،