للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أقولُ وليلتي تزدادُ طولًا ... أما لليل بعدهم نهارُ

جفَّت عيني عن التغميضِ حتى ... كأن جفونَها عنها قصارُ

وعلى هذه الشاكلة لا يزال يدير المعاني القديمة في ذهنه ويولد منها ويستخرج طرائف رائعة، وعلي الرغم من أنه كان مكفوفًا كان يحسن الوصف حتى ليقول الأصمعي: "إنه ما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره، فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله"١ ومن وصفه البديع لإحدى المغنيات قوله٢:

وصفراءُ مثل الخيزرانة لم تعشْ ... ببؤس ولم تركب مطية راعِ

تصلِّي لها آذاننا وعيوننا ... إذا ما التقينا والقلوبُ دواعِ

جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانِها ... لزوَّارها من مزهرٍ ويَرَاعِ٣

إذا قلدت أطرافها العود زلزلت ... قلوبًا دعاها للوساوسِ داعِ

كأنهم في جنة قد تلاحقت ... محاسنُها من روضةٍ ويفاعِ٤

يروحون من تغريدِها وحديثِها ... نشاوى وما تسقيهم بصواعِ٥

لعوبٌ بألباب الرجال وإن دَنَتْ ... أطيع التُّقى والغيُّ غيرُ مُطاعِ

وفي كل مكان من غزله نجد أثر الحضارة في رقة حِسِّه؛ سواء حين يصف حنينه وحرمانه وصدود محبوباته أو حين يصور لقاءه لهن ووداعهن أو ذكرياته معهن على شاكلة قوله٦:

لقد كان ما بيني زمانًا وبينها ... كما بين ريحِ المسكِ والعنبرِ الوردِ

وقوله٧:

عندها الصبر عن لقائي وعندي ... زفرات يأكلن قلب الجليدِ

ولعل في كل ما قدمنا ما يوضح كيف كانت صنعة بشار في شعره تقوم على


١ أغاني ٣/ ١٤٢.
٢ أمالي المرتضى ٢/ ١٣٩.
٣ "يراع" هنا: مزمار
٤ اليفاع: المرتفع من الأرض.
٥ "الصواع" هنا: الجام يشرب فيه.
٦ أمالي المرتضى ٢/ ٦٤، والديوان ٢/ ٣١٤.
٧ الديوان ٢/ ٢٧٢.

<<  <   >  >>