للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من مثل قوله١:

لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكَرَى طيف ألم

نَفِّسي عني قليلًا واعلمي ... أنني يا عَبدَ من لحم ودم

إن في بُرديَّ جِسْمًا ناحلًا ... لو توكأتِ عليه لانهدم

ولكن كثرة الغزل المادي الصريح عنده طغت على مثل هذه الأبيات التي كان يشكو فيها الصبابة وتباريح الحب. وينبغي أن نعرف أنه مع ماديته في غزله كان لا يزال يستقي من غزل القدماء ومعانيه، ولا يزال يتتبع حتى صورهم فيصوغها صياغة جديدة تلائم رقة عصره؛ فقد روى الرواة أنه أنشد قول كثير:

ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكفِّ تلينُ

فقال: والله لو زعم أنها عصا مخ أو عصا زبد، لقد كان جعلها جافية خشنة بعد أن جعلها عصا، ألا قال:

ودعجاء المحاجر من معدٍّ ... كأن حديثها ثمرَ الجنانِ

إذا قامت لمشيتها تثَنَّتْ ... كأن عظامَها من خيزَرانِ٢

ومعنى ذلك أن بشارًا كان يستغل صور الغزل القديم، وكان يستغل أيضًا معانيه، ومن خير ما يصور ذلك وقوفه عند طول الليل والسهاد فيه الذي طالما ذكره الجاهليون والإسلاميون؛ فقد عرضه في معارض مختلفة، تارة يقول٣:

النَّجْمُ في كَبِدِ السَّمَاءِ كأنَّهُ ... أعمى تحيَّرَ ما لديهِ قائدُ

ويقول تارة ثانية٤:

خليليَّ ما بال الدُّجى ليس يبرحُ ... وما بال ضوءِ الصبحِ لا يتوضحُ

أضلَّ الصباحُ المستنيرُ طريقَهُ ... أم الدهر ليلٌ كلُّه ليس يبرحُ

ويقول تارة ثالثة٥:

كأن جفونَه سملت بشوك ... فليس لنومه فيها قرار


١ أغاني ٣/ ١٥٠، وما بعدها.
٢ أغاني ٣/ ١٥٤.
٣ انظر التبيان شرح ديوان أبي الطيب المتنبي للعُكْبَري، طبعة الحلبي، ٢/ ٧٢.
٤ الديوان ٢/ ١٠٤.
٥ الديوان ٣/ ٢٤٩.

<<  <   >  >>