للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

له، وقلنا إنه كان يقوم على القذف في الأعراض والاتهام بالزندقة والإلحاد، مع أنهما كانا جميعًا زنديقينِ ملحدين، ويصور بشار هجاءه فيقول:

تزل القوافي عن لساني كأنها ... حمات الأفاعي ريقُهن قضاءُ١

ويقول الجاحظ في المفاضلة بينه وبين خصمه: "وما كان ينبغي لبشار أن يناظر حمادًا من جهة الشعر وما يتعلق بالشعر؛ لأن حمادًا في الحضيض وبشار مع العيُّوق٢، وليس في الأرض مولَّد قروي يعد شعره في المحدث إلا وبشار أشعر منه"٣.

وإذا تحولنا إلى الغزل عند بشار وجدناه فيه يعكف على نماذج القدماء شأنه في كل شعره؛ فهو يقرأ الغزل الجاهلي ويقرأ غزل عصر بني أمية عند عمر بن أبي ربيعة وأضرابه من أهل مكة والمدينة وعند جميل بثينة وأضرابه من شعراء نجد وبوادي الحجاز، وبذلك يعرف معرفة دقيقة شعر الأطلال والوصف الحسي للمرأة عند الجاهليين، كما يعرف شعر عمر وأمثاله مما يصور قصة الحب ووقائعه وحياته وموته وما يُشْفَعُ به من بعض الحرية، كما يعرف شعر العُذْريين وما يكسوه من عفه وطهر، ويحول كل ذلك إلى غزله. ولا يقف عنده، بل يضيف إليه إثمه ومجونه، وكل ما رفدته بيئته به من أسباب العبث التي زخر بها جو المجتمع العباسي وما أذاعه فيه الإماء والجواري من مجون. وكان بشار لا يأبَه للقيم الخلقية والدينية، وكان ضريرًا، فاعتمد على حاستي السمع واللَّمس في غزله، ولعل من الطريف أنه يصرح بذلك في مثل قوله٤:

يا قوم أذْني لبعض الحي عاشقةٌ ... والأُذْنُ تعشقُ قبل العينِ أحيانا

ولا يصبح الغزل عنده في أكثر جوانبه حسيًّا فحسب، بل يصبح ضربًا من نداء الغريزة النوعية بصورة ليس فيها أدني احتشام؛ بل فيها غير قليل من العدوان على المجتمع وآدابه. ولا نبالغ إذا قلنا إنه هو الذي دفع الشعراء من بعده إلى التمادي في تصوير المتاع الحسي، حتى الشاذ منه على نحو ما هو معروف عند أبي نُواس. وحقًّا قد نقرأ عنده غزلًا يحتفظ فيه بكرامته وكرامة المرأة


١ الديوان ١/ ١٢٩، والحيوان ٤/ ٢٦١، والحمات: أنياب الأفعى
٢ العيوق: نجم أحمر في طرف المجرة، يضرب به المثل في العلو.
٣ الحيوان ٤/ ٤٥٣.
٤ طبقات الشعراء، ص٢٩.

<<  <   >  >>