للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفضلك لا يحدُّ ولا يُجَارى ... ولا تحوي حيازَتَهُ الظنونُ

خُلِقتَ بلا مشاكلةٍ لشيء ... فأنت الفوقُ والثَّقلانِ دونُ

ويقول في الفضل بين يحيى البرمكي١:

أوحده اللهُ فما مثلُه ... لطالبِ ذاك ولا ناشدِ

وليس على اللهِ بمستنكرٍ ... أن يجمعَ العالَمَ في واحدِ

وبذلك كان من أوائل من أعدوا لاتساع المبالغة في المديح العباسي، ومضى الشعراء من بعده يبالغون حتى رفعوا ممدوحيهم إلى مرتبة الآلهة.

وربما كان -مما يتصل بهذا الفن التقليدي- فن المديح عنده، استخدامه للرجز، وخاصة في طردياته، وهو فيها يتفوق تفوقًا منقطع النظير، وقد أشاد بها الجاحظ إشادة رائعة على ما مر في غير هذا الموضع؛ وبينما نراه يعنى بصناعته اللفظية في المديح والرثاء نراه يفرط في السهولة حين يتغزل، وكان ينظم كثيرًافي أوزان المجتث والمقتضب والمتدارك وما يشاكلها من البحور المجزوءة، معبرًا عن أحاسيس الحب، وملائمًا بينها وبين الغناء الذي عاصره، وله شعر في الزهديات ربما نظمه مجاراة لأبي العتاهية وأمثاله ممن كان تروج أشعارهم في العامة، أما الزعم بأنه كفَّ في آخر حياته عن الملاذ فهو زعم باطل٢، إنما تلك كانت لحظات صحو تعتريه من حين إلى حين. ومن بديع ما نظمه في هذه اللحظات قوله٣:

يا رب وجهٌ في الترابِ عتيقُ ... ويا رب حسن في الترابِ رفيقُ

فقل لقريبِ الدارِ إنك راحلٌ ... إلى منزلٍ نائي المحلِّ سحيقِ

وما الناس إلا هالكٌ وابن هالكِ ... وذو نسبٍ في الهالكينَ عريق

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشَّفَتْ ... له عن عدوٍ في ثيابِ صديقِ

وواضح مما قدمنا أن صنعة الشعر عند أبي نواس كانت تعتمد اعتمادًا شديدًا على الإطار القديم في المديح والرثاء وما يشبهما؛ بينما كانت تنفك من هذا الإطار


١الحيوان ٣/ ٦٣ وما بعدها.
٢ انظر في ذلك: طبقات الشعراء ص١٩٤.
٣ الديوان ١٩٢.

<<  <   >  >>