للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجرار شعره؛ فيعجبون به وينقشونه على جرارهم١. ولم يطل به الأمر حتى انصرف عن بيع الخزف، ولزم المخنثين من شباب الكوفة، ولبس ملابسهم٢ وانتظم في سلك الْمُجَّان من أمثال مطيع بن إياس. وتعرَّف في أثناء ذلك على إبراهيم الموصلي مغني المهدي والرشيد فيما بعد، واتفقا على الرحيل إلى بغداد؛ غير أن الأبواب فيها لم تفتح له؛ فعاد أدراجه إلى الحيرة٣، وتعلق فيها بجارية لبني معن بن زائدة كانت نائحة ولها حسنٌ وجمال، ولكن مواليها حالوا بينها وبينه٤. وأخذ شعره فيها يذيع، فاستدعاه الموصلي ووصله بالمهدي فمدحه ونال جوائزه السنية. حدث أن رأى جارية من جواري القصر هي عُتبَة، وكانت من جواري رائطة بنت السفَّاح زوج المهدي، فوقعت في قلبه وأخذ يتغزل فيها غزلًا كثيرًا، وبلغ المهدي ذلك فغضب لتعرضه لحرمه وأمر بحبسه، وشفع فيه خاله يزيد بن منصور حتى خلصه؛ فعاد إلى مثل حاله معها، فتدخلت رائطة، وأثارت حفيظة المهدي عليه؛ فأحضره وضربه بالسياط في الدواوين بين يديه؛ غير أنه عاد فرقَّ له، ووعده أن يستوهبها من مولاتها ويدفعها إليه. وعلمت بذلك عتبة، وكانت تزدريه على نحو ما كانت تزدري جنان أبي نواس؛ فاسترحمت المهدي واستجارت به، وقالت إنه غير عاشق، وإنما يريد الذِّكر والشهرة بتغنيه فيَّ وامتحِنْهُ بمال ذي خطر، فإنه سيلهيه عني ويشغله عن ذكري، فأمر له المهدي بمائة ألف، ولم يسمِّ دراهم ولا دنانير، وأعطاه صكًّا بذلك؛ فكان كلما حاول أن يصرف الصك قدمه له الموظفون بالدواوين دراهم، فكان يأباها. وظل شهرًا مطالبًا بالدنانير، ونسي عتبة وذكرها، فأشرفت عليه يومًا وقالت: "يا صفيق الوجه لو كنت عاشقًا لشغلك العشق عن المفاضلة بين الدراهم والدنانير، وبلغ كلامها المهدي؛ فعلم أنها كانت أعرف بقصة الرجل، فأمسك عن أمره٥. غير أنه ظل يقرِّبه منه، وتبعه الهادي والرشيد يسيران معه نفس السيرة، ويقال إنه


١ انظر: الأغاني، طبعة دار الكتب، ٤/ ٩ وقد ترجم له أبو الفرج ترجمة ضافية في هذا الجزء.
٢ أغاني ٤/ ٧.
٣ أغاني ٤/ ٤.
٤ أغاني ٤/ ٢٤.
٥ طبقات الشعراء: لابن المعتز، ص٢٣٠. وانظر: زهر الآداب ٢/ ٣٥.

<<  <   >  >>