للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لم يكن يفارق الرشيد في سفر ولا في حضر١.

ولا نمضي طويلًا في عصر الرشيد، حتى نرى أبا العتاهية يتنسك ويلبس الصوف والزهد ويترك حضور المنادمة والقول في الغزل، ويُحْضره الرشيد ويأمره أن يعود إلى ما كان عليه، فيمتنع، فيضربه ستين سوطًا ويأمر بحبسه، وينظم أشعارًا كثيرة يستعطفه، وتُنْقَل إلى الرشيد، وكان مما نظمه قوله٢:

أما واللهِ أنَّ الظُّلمَ لومٌ ... وما زالَ المسيءُ هو الظَّلومُ

إلى ديانِ يومِ الدِّينِ نمضي ... وعند اللهِ تجتمعُ الخصومُ

فعطف عليه الرشيد وأطلق سراحه، وتصادف أن انقبض عن الدنيا وغشيته سحابة من الحزن بعد فتكه بالبرامكة؛ فكان يستريح إلى أشعار أبي العتاهية الجديدة في الزهد، ويفسح له في مجالسه ونزهاته. ولما تحولت مقاليد الأمور إلى المأمون كان يقربه منه ويصله٣، ويستحسن شعره، إلى أن توفي سنة عشر ومائتين وقيل بل سنة إحدى عشرة وقيل بل ثلاث عشرة. وواضح أن انقلابًا حدث في حياة أبي العتاهية؛ فتحول مما كان يأخذ فيه مع شعراء بغداد لعصره من لهوٍ ومجون إلى زهد في الدنيا ومتاعها الزائل، وكاد يقصر شعره على ذلك. ولم يلبث معاصروه أن تساءلوا هل هذا الزهد مردُّهُ إلى تقوى حقيقية، أو مردُّه إلى زندقة ومانوية فهو يستمد فيه من ماني، والزنادقة على شاكلة صالح بن عبد القدوس وأضرابه ممكن كانوا ينزعون في زهدهم منزعًا مانويًّا. وتعرض له حموديه صاحب الزنادقة يريد أن يثبت التهمة عليه؛ فقعد حجَّامًا في الطريق، يحجم الفقراء والمساكين٤ وحامت حوله شبه كثيرة، وقيل: إنه يقنت للقمر ويبتهل له ابتهال المانوية٥، وشنع عليه واعظ كبير من وعاظ بغداد، هو منصور بن عمار؛ فقال إنه زنديق٦ وقال كثيرون: إنه لا يؤمن بالبعث٧. ويقول ابن المعتز في


١ أغاني ٤/ ٦٣.
٢ أغاني ٤/ ٥١.
٣ أغاني ٤/ ٥٣ وما بعدها.
٤ أغاني ٤/ ٧.
٥ أغاني ٤/ ٣٥.
٦ أغاني ٤/ ٣٤، ٥١.
٧ أغاني ٤/ ٢.

<<  <   >  >>