للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ترجمته: "إنه يرمى بالزندقة مع كثرة أشعاره في الزهد والمواعظ، وذكر الموت والحشر والنار والجنة١، والذي يصح لي أنه كان ثنويًّا"، ويقول في ترجمته ابنه العتاهية: "كان أبوه خبيث الدين، يذهب مذهب الثَّنويَّة؛ إلا أنه كان ناسك الظاهر"٢. وفي الأغاني أنه كان ينظم شعرًا يدل على توحيده لنفي تهمة الزندقة عنه، من مثل قوله٣:

ألا إننا كلنا بائدُ ... وأي بني آدمَ خالد

وبدؤهم كان من ربهم ... وكلٌّ إلى ربِّه عائدُ

فيا عجبًا كيف يعصى الإلـ ... ـه أم كيف يَجْحَدُهُ الجاحدُ

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تدلُّ على أنَّه واحدُ

ولو أننا وصلتنا أشعاره كاملة لأمكن الحكم عليه حكمًا دقيقًا؛ غير أن ما طبع من شعره ونشر باسم "الأنوار الزاهية في ديون أبي العتاهية" إنما هو اختيارات فقيه أندلسي، اختارها بذوقه الديني السليم، ولعل ذلك ما يجعلها تتضارب مع ما يقال عن الشاعر من أن شعره إنما هو في ذكر الموت والفناء دون ذكر النشور والمعاد٤، فالمعاد والنشور مبثوثان في اختيارات الفقيه؛ بحيث يمكن أن يقال إن هذه التهمة غير صحيحة. وإن كنا في الوقت نفسه نشك في أن تكون صورة هذه المختارات ضابطة لحقيقة زهدياته؛ فقد يكون الفقيه اختار من ديوانه تلك الأشعار التي كان ينظمها تغطية وتعمية لحقيقة أمره. ولا يشك من يقرؤها في أن فكرة الموت ومصير الإنسان في حياته كانت هي شغله الأول؛ فقد دار عليها أكثر تلك الزهديات، وفي الأغاني نص مهم عن أحمد بن حرب، يقول فيه: "كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد وأن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء، ثم إنه بنى العالم هذه البنية منهما، وكان يزعم أن الله سيرد كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعًا، وكان مجبرًا "٥. وكأنه حاول بذلك أن يوفق بين نظرية الإسلام والتوحيد ونظرية المانوية في أن


١ طبقات الشعراء، ص٢٢٨.
٢ طبقات الشعراء، ص٣٦٤.
٣ أغاني ٤/ ٣٥. والديوان ص٦٩.
٤ أغاني ٤/ ٢.
٥ أغاني ٤/ ٥.

<<  <   >  >>