للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هناك إلهين: إلَهًا للنور والخير وإلَهًا للظُّلمة والشر، وللخير أجناسه وللشر أجناسه، وقد بنى منهما العالم. ونجد في شعره القليل الذي وصلنا ما يؤكد أنه كان حقًّا يرى هذه النظرية، ويعتقدها من مثل قوله١:

الخيرُ والشرُ هما أزواجُ ... لذا نتاجٌ ولذا نتاجُ

لكلِّ إنسانٍ طبيعتانِ ... خيرٍ وشرٍّ وهما ضدانِ

والخيرُ والشرُ إذا ما عُدَّا ... بينهما بونٌ بعيدٌ جدّا

فهو في زهده كان يتصل بالمانوية كما شهد معاصروه وكما تشهد أشعاره، وقد مر بنا أن مثال الزاهد عنده هو نفس مثاله عند الهنود، وهو بوذا الذي فرَّ عن ملكه وساح مسكينًا يفكر في ملكوت السماوات والأرض. فزهد أبي العتاهية لم يكن زهدًا إسلاميًّا خالصًا؛ بل كانت تشوبُه عناصر أجنبية.

وإذا رجعنا إلى شعره الذي روته المنتخبات المنشورة له باسم "الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية" وما روته له كتب الأدب من مثل الأغاني وجدنا أشعاره تمثل حياته وما حدث بها من انقلاب؛ إذ يتراءى لنا في مرحلتين واضحتين تمام الوضوح: مرحلة أولي نراه فيه على شاكلة الشعراء المعاصرين له الذين يُجْرُون شعرهم في تصوير اللهو والمجون ومجالس الأنس والطَّرب. ولا نجد في أخباره أنه تبدَّى أو دخل في البادية، كما صنع بشار وأبو نواس ولا أنه لزم كبار اللُّغويين أمثال خلف الأحمر، وكأنه استقى شعره من القطع العباسية الجديدة التي كان يغني فيها المغنون، ولم يحاول التزود تزودًا واسعًا بالتراث القديم؛ ولذلك قلما نجد عنده ضخامة البناء وما يُطْوى فيها من أسلوب جزل رصين، وهو من هذه الناحية يقترب اقترابًا شديدًا من اللغة اليومية التي عاصرها، حتى في مديحه وشعره الرسمي الذي كان يَلْقَى به الخلفاء، وخير ما يمثله قصيدته اللَّامية في المهدي، وهي التي يستهلها بقوله٢:

ألا ما لسيِّدتي ما لها ... أدلًا فأحمل إدلالها


١ أغاني ٤/ ٣٧. والديوان ص٣٤٦.
٢ أغاني ٤/ ٣٣. والديوان ص٣٠٩.

<<  <   >  >>