الصنعة؛ فقد مضى الشعراء في القرن الثالث يقفون في صفين متقابلين، منهم من يفهم الشعر على أنه تصنيع وزخرف وتنميق مثل أبي تمام وابن المعتز، ومنهم من لا يبعد في فهمه كل هذا البعد، مثل البحتري وابن الرومي، وإن كنا نلاحظ عندهما وعند أمثالهما من أصحاب مذهب الصنعة في القرن الثالث أنهم كانوا يستخدمون زخارف التصنيع في صورة أقوى وأوضح منها عند أسلافهم في القرن الثاني، ومِن ثَمَّ أخذ مذهبهم في التعقد. ولعل في ذلك ما جعلنا نؤمن بأن إيجاد الحواجز والفوارق المطلقة بين المذاهب الفنية أمر عسير؛ إذ ما تزال تتداخل وتتشابك على هيئات مختلفة، وهذا شيء طبيعي فإن الشعراء حينئذ كانوا يلتقون كثيرًا في مجالس الخلفاء والوزراء والنوادي الأدبية العامة، وكانوا دائمًا يعلقون على ما يسمعون من شعر باستحساناتهم، وبذلك تبادلوا التأثر بعضهم ببعض، ونسوق لذلك مثلًا: نادي القراطيسي الذي مرت الإشارة إليه وكان مألفًا للشعراء؛ فكان أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم وطبقتهم يقصدون منزله، ويجتمعون عنده ويقصفون ويدعو لهم القيان وغيرهن من الغلمان"١ ولا تخلو ترجمة شاعر عباسي في الأغاني من وصف هذه الاجتماعات وما كان يحدث فيها بين الشعراء ومن مطارحات ونوادر أدبية، وكل منهم يسأل صاحبه عن أجود شعره.
وعلى شاكلة اجتماع مسلم بأبي نواس وأبي العتاهية ظل أصحاب التصنيع والصنعة يجتمعون في بغداد، وهيأ هذا الاجتماع لشيء من التداخل بين المذهبين العامين في حرفة الشعر حينئذ، وأصبحنا نجد عند الصانعين محسنات المصنِّعين وزخارفهم؛ ولكنهم لا يستخدمونها مذهبًا، بل تسقط في نماذجهم وقصائدهم من حين إلى حين. وهذا هو فرق ما بين العملين والمذهبين، يوجد اختلاط؛ ولكن لا يوجد اتحاد، ويوجد عند الصانعين حليات التصنيع من حين إلى حين ولكن لا يوجد استمرار التطبيق.