للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لما أنشده لاميته المشهورة فيه وبلغ قوله:

هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريعَ الكأسِ والأعين النُّجل

قال له: أنت صريع الغواني؛ فسمِّى بذلك حتى صار لا يُعْرف إلا به١. وتدلنا أخباره على أن الرشيد كان يعجب به، وفي رأينا أن مصدر هذا الإعجاب لم يكن مديحه له فحسب؛ فقد وجده يشيد بقائده يزيد بن مزيد الشيباني حين قضى على ثورة الخوارج في عهده وكان ذلك سنة تسع وسبعين ومائة، وبلغ من هذه الإشادة كل مبلغ؛ حتى جعله عز الخلافة.

إذا الخلافةُ عدَّت كنتَ أنت لها ... عزًّا وكان بنو العباس حكامًا٢

بل جعله سداد الملك العباسي وصمام أمانه في حروب الخوارج وعلى حافات الثغور، يقول٣:

لولا يزيدُ لأضحى الملك مطرحًا ... أو مائل السمك أو مسترخي الطُّول٤

نابُ الإمامِ الذي يفترُّ عنه إذا ... ما افترَّت الحربُ على أنيابها العصل٥

وصادف ذلك هوى في نفس الرشيد؛ لأنه كان قد أخذ يفكر -على ما يظهر- في إعلاء كِفَّة العرب في شئون الحكم ومقاليده، وكان يرى الشعراء مزدحمين على أبواب يحيى البرمكي وولديه الفضل وجعفر وغيرهم من الفرس؛ فكان ذلك يقضَّ مضجعه، ويتساءل بينه وبين نفسه أين العرب؟! وكيف أرفع منهم أمام هؤلاء الذين استبدوا بي وملأ لهم الشعراء طرقات بغداد ثناء؛ فلما نظم مسلم مدائحه في يزيد نفَّس عن نفسه ووجد لها روحًا على قلبه. ويروي الرواة أنه أرسل يومًا إلى يزيد؛ فأتاه لابسًا سلاحه مستعدًّا لأمر إن أراده؛ فلما رآه ضحك وقال له: يا يزيد أخبرني من الذي يقول فيك:

تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل

لله من هاشم في أرضه جبل ... وأنت وابنك رُكْنَا ذلك الجبل


١ طبقات الشعراء، ص٢٣٥
٢ الديوان ص٦٧.
٣ الديوان ص٧.
٤ مطرحًا: مخذولًا. وقد شبه في الشطر الثاني الملك بخيمة، لولا يزيد لَمَالَ عمودُها واسترخت حبالها.
٥ يفتر عنه هنا: يكشر، والعصل: المعوجة، وهي أشد بأسًا من المستقيمة.

<<  <   >  >>