للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال له: لا أعرفه؛ فعجب الرشيد، وقال له: سوءة لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا يعرف قائله، وقد بلغ أمير المؤمنين؛ فرواه، ووصل قائله، وهو مسلم بن الوليد، وانصرف يزيد فدعا به ووصله١، وتوالت عليه عطاياه، ووالى مسلم مدائحه الرائعة فيه. وجذبه غير واحد من رجالات العرب فكان يقلدهم مدائحه، مثل داود بن زيد المهلبي وزيد بن مسلم الحنفي والحسن بن عمران الطائي ومنصور بن يزيد الحميري وابنه محمد. وظل وفيًّا للبرامكة؛ ولكن يزيد بن مزيد غلب عليهم كما غلب معه هؤلاء العرب الخلص. ونراه يمدح الأمين، حتى إذا تحوَّلت أزمة الخلافة إلى أخيه المأمون لزم الفضل بن سهل وزيره، وكانت قد تقدمت به السن، فعطف عليه الفضل وولاه بريد جرجان وقيل مظالمها، ولم يلبث هناك أن لبَّي نداء ربه سنة ثمانٍ ومائتين.

وأكثر شعر مسلم في مديح من سميناهم وله غزليات وخمريات قليلة، وهاجى ابن قنبر الشاعر، ولكن لا على طريقة الهجاء عند حماد عجرد وبشار، ولكن على طريقة الشعراء الأمويين، وما زال به حتى أفحمه وكف عن مناقضته٢. ويقال إنه هجا يزيد بن مزيد، وربما ند ذلك منه حين تأخر عن عطائه، ووصل ذلك إلى مسامع الرشيد؛ فأحضره وهدده وقال له: "لئن بلغني أنك هجوته لأنزعن لسانك من فيك" فانتهى ولم يَعُدْ، ونعِم بعطاياه وعطايا الخليفة معًا، حتى إذا توفي رثاه رثاء حارًا.

ومسلم في شعره يعتمد اعتمادًا شديدًا على الإطار التقليدي، وما يرتبط به من جزالة الأسلوب ومتانته ورصانته ونصاعته وقوته، حتى في غزله وخمرياته؛ فإنه لا يهبط أبدا على نحو ما يهبط أبو نواس وأبو العتاهية إلى الأساليب اليومية، وحقًا مر بنا في الفصل السابق أن له قصيدتين من وزن مولد، ولعله جارى فيهما أصحاب مذهب الصنعة وتجديداتهم في البحور الشعرية، وهما على كل حال شذوذ في عمله، أما بعدهما فشعره يغلب أن يكون من الأوزان الطويلة حتى تتلاءم


١ انظر ترجمته في الأغاني الملحقة بالديوان ص٣٦٧
٢ انظر الأغاني "طبعة الساسي" ١٣/ ٨- ١١. وراجع ترجمته فيه المحلقة بالديوان.

<<  <   >  >>