مع ما يريد من جرس قوي، ومن ضخامة البناء في اللفظ والتعبير. وهو من هذه الناحية يعدُّ في طليعة من دفعوا الشعراء العباسيين إلى التمسك بالأسلوب الجزل المصقول؛ بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه فعلًا أول من دفع الشعراء في هذا الاتجاه؛ فقد كان الشعر العربي عند أبي نواس وأبي العتاهية على وشك أن يزايل هذا الأسلوب إلى الأسلوب الشعبي اليومي، فأمسك به مسلم دون هذه الغاية وردَّه في قوة إلى جزالته القديمة وجعلها مقومًا أساسيًّا من مقوماته، بل جعلها المقوم الأساسي الأول بين هذه المقومات. وعمَّ هذا الذوق لا عند خلفائه من أصحاب مذهب التصنيع مثل أبي تمام بل أيضًا عند أصحاب مذهب الصنعة وكبارهم خاصة، مثل البحتري. ولا تظن أن هذا الأسلوب الجزل القوي لم يكن يكلف مسلمًا مشقة؛ بل لقد كان يكلفه عناء أي عناء في اصطفاء اللفظ والملاءمة بين اللفظة واللفظة في الجرس، حتى يتم له ما يريد من ضخامة البناء وروعته. وهو بناء يقام على أعمدة هي الأبيات، وكل بيت كسابقه في الضبط والإحكام، وكل قصيدة بل كل مقطوعة كمثيلتها في هذا النمط الذي لا يتفاوت نسيجه، ومن أجل ذلك يختلف اختلافًا بينًا عن أبي نواس وأبي العتاهية، فشعرهما فيه القوي والضعيف، وفيه المتين والمهلهل، لسبب بسيط وهو أنهما من ذوق أصحاب الصنعة، لا يبعدان حين النظم في التكلف، بل كثيرًا ما يقولان الشعر بديهة وارتجالًا في غير تَروٍّ، أما مسلم فصاحب رَويَّة، لا يرتجل ولا يقول الشعر عفوًا؛ فالشعر عنده صناعة مجهدة، لا بد فيها من التريث والتمهل، ولا بد فيها من الصقل والتجويد، ولعل ذلك ما جعل ديوانه صغيرًا بالقياس إلى دواوين معاصريه من أمثال بشار وأبي نواس.
وهذا البناء الضخم عنده لا تكفي ضخامته وحدها في رأيه؛ فلا بد أن يضاف إليه الزخرف الجديد الذي كان يأتي على قلة في الشعر القديم، وأكثر منه بشار وخلفاؤه؛ ولكنهم لم يتخذوه مذهبا، أما مسلم فقد رأي أن يطبقه على شعره، واقرأ له القصيدة الأولى في ديوانه وهي في مديح يزيد بن مزيد، فستراه يستهل غزلها على هذا النحو: