للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في البيت الثاني أن يأتي بلون آخر هو لون الجناس؛ فجانس بين يفتر وافترار، وأدخل في ذلك ضربًا من المشاكلة، فيزيد يفتر متبسمًا وتفتر الحرب عن أنيابها القاتلة الغلاظ. ولم يكتف بذلك في البيت؛ فقد أضاف فيه لونًا جديدًا هو لون الطباق؛ فطابق بين تغير الوجه وعبوسه وابتسام يزيد، وكل ذلك ليحقق لنموذجه ما يستطيع من زخارف الفن الجديدة. أما البيت الثالث فكان يعجب به إعجابًا شديدًا؛ لتألق لون الجناس فيه بين مهج ورهج، ثم بين أجل وأمل، ويروى أنه اجتمع بأبي العتاهية فقال له: والله لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك:

الحمدُ والنعمةُ لك ... والملكُ لا شريكَ لك

لَبَّيك إن الملكَ لك

لقلت في اليوم عشرة آلاف بيت؛ ولكني أقول:

موفٍ على مُهَجٍ في يوم ذي رَهَجٍ ... كأنه أجل يسعى إلى أمل١

فهو يحس إحساسًا دقيقًا بأنه يتناول حرفته بطريقة أخرى ليست هي طريقة الصانعين من أمثال أبي العتاهية؛ وإنما هي طريقة المصنعين التي ابتدأها والتي تجعل الشعر نحتًا وصقلًا وزخرفة وتنميقًا. وننتقل مع مسلم إلى بيته الرابع فنرى فيه طباقًا واضحًا بين الاستعجال والمهل وطباقًا دقيقًا بين النيل أو الأخذ بالرفق والأخذ مع الإعياء. ويصوغ في البيت الخامس صياغة جديدة بيت زهير في مديح هرم بن سنان٢:

قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا

ويستمر فيتحدث عن قِرَى يزيد وضيافته وكرمه، ويجنح إلى المشاكلة؛ فيزيد له ضربان من القرى: ضرب في السلم كقرى الأجواد، وضرب آخر في الحرب؛ إذ يقري الموت أرواح الشجعان.

ونراه في البيت السابع يُطْرِف قارئه بصورة بارعة؛ إذ جعل يزيد يكسو السيوف بدماء أعدائه ويتوِّج القنا والرماح برءوسهم. وينتهي مسلم أخيرًا إلى فكرة عربية.


١ أغاني "طبعة دار الكتب" ٤/ ٢٧.
٢ ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص٤٩.

<<  <   >  >>