للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحيوان من أَسَد وغير أسد، وقصيدته في وصف إيوان كسرى من دُرره، وكذلك قصيدته في وصف أسطول ابن دينار.

وعلي الرغم من لقائه لأبي تمام وروايته لشعره نجده يقف في الصف المقابل له في صناعة الشعر وفهمه؛ فقد كان يقف في صف الصانعين الذين التقينا بهم في القرن الثاني من أمثال بشار وأبي نواس؛ بينما كان أبو تمام يقف في صف الصانعين من أمثال مسلم بن الوليد، بل لقد بلغ عنده مذهب التصنيع غايته من التنميق العقلي والتأنق اللفظي، وكأن البحتري لم يستطع أن ينهض بما أداه أبو تمام للشعر من تصنيع وزخرف، ولعل ذلك يرجع في بعض أسبابه إلى أنه نشأ نشأة بسيطة في عشيرة بحتر الطائية؛ فلم يتثقف بالثقافات الفلسفية وغير الفلسفية التي عاصرته، وظل ذوقه في جملته لا يأبَه للتنميق المسرف، كما ظل يفهم الشعر على أنه طبع وموهبة، وعبر الآمدي في كتابه الموازنة الذي عقده للمقارنة بينه وبين أبي تمام عن ذلك بقوله: "إنه أعرابي الشعر مطبوع، وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف"١

وقال: إنه نشأ في البادية؛ فهو ليس مثل أبي تمام الذي نشأ في دمشق، وعاش في المدن٢. وهي مقارنة طريفة أقامها الناقد بين شاعر بدوي وشاعر حضري لا عهد له بالبادية ولا صلة، وقد مثَّل كل منهما طريقة في صناعة الشعر وحرفته؛ فأما أبو تمام فحضري مثقف ثقافة واسعة، وهو لذلك يأخذ تصنيع مسلم ويعقده تعقيدًا شديدًا، أما البحتري فشاعر بدوي، وهو لذلك لا يستطيع أن ينهض بم ينهض به أبو تمام من التعبير عن الرقي العقلي الذي صادف العقل الحضري وصناعة الشعر الحضرية.

ومعنى ذلك أن البحتري اتصل بأبي تمام، وعرف المناهج الجديدة؛ ولكنه لم يستطع أن يجاريه في صناعته؛ فهو أعرابي من أهل البادية، ومثله لا يستطيع أن ينتقل دفعة واحدة من القديم إلى الجديد، فوقف تأثره بأبي تمام عند الجوانب.


١ الموازنة بين الطائِيَّينِ ص٢.
٢ الموازنة ص١٢.

<<  <   >  >>