الظاهرة، ولم يستطع أن يتغلغل إلى أعماق شعره، ولذلك قالوا: إنه حافظ على الأساليب الموروثة، أو كما قال الآمدي على عمود الشعر العربي؛ فصناعته أقرب ما تكون إلى صناعة البادية، ليس فيها تجديد ولا خروج على التقاليد، ومن أين يجيئه ذلك وهو ليس من أهل المدن ولا من ثقافتهم وعقليتهم؟
من أجل ذلك كله اعتبر النقاد البحتري مصورًا للمذهب القديم؛ ولكن ينبغي أن نحترس من هذا الرأي، فقد تحضر البحتري، وغيَّر كنيته إذ كان يكنى أبا عبادة، ولما دخل العراق تكنى أبا الحسن ليزيل العنجهية والأعرابية، ويساوي في مذاهبه أهل الحاضرة١، وهو كذلك في شعره وصناعته قد حاول أن يغيِّر فيها وأن يبدل، كما غير في كنيته وبدَّل، حتى يساوي في مذاهب صناعته أهل الحاضرة، ولعله من أجل ذلك اتصل بأبي تمام حتى يعرف مذاهب الحاضرة في حرفة الشعر، ويحاكي نماذجها، وإذن فينبغي أن نتلقى كلام الآمدي بشيء من الاحتراس؛ فليس البحتري بدويًّا خالصًا ولا أعرابيًّا خالصًا. هو بدوي أعرابي؛ ولكنه يأخذ بحظ من الحضارة، فقد تحضر وتحضرت صناعته معه، وحاول أن يخرج نماذج تَنْفُق في سوق الحاضرة، وتتصف بصفة الجمال الحضري المعروف لعهدها. وإن من الخطأ أن نقطع بأن البحتري على مذهب الأوائل، ولم يفارق عمود الشعر المعروف، إلا إذا خصصنا هذا الكلام بعض التخصيص؛ فقد كان يحافظ على الأساليب الموروثة، ولكن ليس معنى ذلك أنه يمكن إخراجه من دائرة العباسيين إلى دائرة القدماء، فكلمة الأوائل تحتاج شيئًامن التحقيق، وأكبر الظن أن الآمدي كان مسرفًا فيها بعض الشيء.
على أن هناك جماعة من النقاد سلكته في طائفة المصنعين من أمثال مسلم وأبي تمام. يقول ابن رشيق عنه وعن أبي تمام: "وقد كانا يطلبان الصنعة ويولعان بها؛ فأما حبيب فيذهب إلى عزوبة اللفظ وما يملأ الأسماع منه مع التصنيع المحكم طوعًا وكرهًا، يأتي للأشياء من بعد ويطلبها بكلفة ويأخذها بقوة؛ وأما