البحتري فكان أعرابيًّا، ولم يكن يأخذ بحظ واسع من الثقافة؛ فلم يصب أدوات الفن عنده ما أصابها من تعقيد وتركيب عند أبي تمام، على نحو ما سنعرف في الفصل التالي. حقًّا إن البحتري أحسن على نحو ما مر بنا في الفصل الثاني جانبَ الموسيقى الداخلية في الشعر وما تستتبعه من المشاكلة بين الألفاظ والمعاني والتوافق الصوتي بين الحروف والحركات والكلمات، وكأني به كان يوفر وقته جميعه للصوت، وهذا جل ما يعتمد عليه في شعره من جو، فهو يطلق الموسيقى ويدعها تؤثر في أعصابنا كما يريد ويشتهي، أما جو أبي تمام فجو غامض مبهم يطلق فيه الموسيقى وهي لا تبلغ سمت موسيقى البحتري؛ غير أنه لا يعتمد عليها فقط، بل نراه يضيف إليها ألوان البديع ويعقد فيها، ولا يكتفي بذلك بل ما يزال يضيف إليها ألوانًا ثقافية قاتمة، تؤثر في الحس وأعصاب الفكر. وحاول البحتري في كثير من جوانب فنه أن يقلِّد أبا تمام في تصنيعه وعبر عن ذلك الجانب في صناعة الشعر وإعجابه به؛ إذ يقول:
وبديع كأنه الزهرُ الضا ... حكُ في رونقِ الربيعِ الجديدِ
ومعانٍِ لو فصلتها القوافي ... هجَّنت شعر جرولٍ ولبيدِ
وركبنَ اللَّفظَ القريبَ فأدرك ... نَ به غاية المرام البعيد
ولكنه ظل مقصرًا في استخدام هذا البديع؛ فعدل في أكثر أحواله إلى الصوت والصنعة في الموسيقى؛ لأنها الجانب القديم الذي يستطيع أن ينميه دون حاجة إلى ثقافة أو فلسفة. أما ألوان البديع فكانت شيئًاجديدًا لا يحسنه من الشعراء إلا من عاشوا في الحضارة، وأخذوا أنفسهم بحظ من الثقافة والعقل العميق على نحو ما سنرى عند أبي تمام. ومهما يكن فإن البحتري لم تكن عنده أسباب تؤهله لاستخدام التصنيع وأدواته على نحو ما انتهت إليه عند جماعة المصنعين؛ فهو بدوي أعرابي رحل إلى المدينة وتحضر، ولكن هذا التحضر لم يتغلغل في عقله ولم ينفذ إلى أعماق نفسه؛ فلم يستطع أن يستخدم الثقافة في عمله، كما أنه لم يستطع التعقيد في أدوات حرفته.