يعقدها ولا أن يولد منها أدوات أخرى؛ إذ لم يكن عقله يسعفه، واقرأ له هذين البيتين اللذين كانا يروعان السابقين بتقسيمه فيهما؛ إذ يقول:
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلًا ... مقصِرًا من صبابةٍ أو مُطيلا
قِفْ مشوقًا، أو مُسْعدًا، أو حزينًا ... أو معينًا، أو عاذرًا، أو عذولا
فإنك إذا نَحَّيتَ جمال الأصوات الذي عرضت فيه الأفكار وجدت البحتري لا يحسن التقسيم؛ لأن التقسيم عمل عقلي يحتاج إلى منطق وهو لم يكن من رجال العقل ولا من رجال المنطق؛ فنحن نراه يقسم من يناديه قسمه متداخلة غير معقولة، إذ يجعله إما مشوقًا أو مسعدًا أو حزينًا أو معينًا أو عاذرًا أو عذولًا، وهي صفات متداخلة، ولكن البحتري يعتذر بأنه ليس من أهل المنطق، فالشعر شيء والمنطق شيء آخر، وكأنه يريد أن يقول: إن الشعر ابن أبولو لا ابن منيرفا.
ولكن غاب عنه ما حدث بين الشعر والمنطق أو الفلسفة من تزاوج في العصر العباسي، وأنه انعدمت بينهما الحدود والحواجز، وما تقدم الزمن إذن؟ وما فائدة الرقي العقلي الذي أصابه العباسيون؟ إن واجب الشاعر أن يلم بالثقافة الحديثة، وأن يلم بالفلسفة بنوع خاص، وأن يتخذ ذلك مادة أساسية في صنع قصائده ونماذجه. والبحتري لا يصور لنا ذلك؛ فهو من جماعة الصانعين الذين لا يسرفون على أنفسهم في استعمال أدوات الصناعة وتعقيدها؛ إنما يصوره أبو تمام الذي كان يفهم أن الشعر تطور في العصر العباسي، وأنه لم يعد ضرورة كما كان في العصور القديمة؛ فقد ظهر النثر وزاحمه، وأصبح لونا من ألوان الترف لا تخاطب به العامة، وإنما تخاطب به الخاصة وخاصة الخاصة من أصحاب الفلسفة والمعاني كما يقول الآمدي١.
ومهما يكن فإن عقل البحتري لم يكن من عقل أبي تمام، لا في الدرجة ولا في النوع، بل هو من جنس مخالف. كان أبو تمام من أهل المدن، وكان مثقفًا ثقافة عميقة، وقد أدخل هذه الثقافة في صناعة شعره ومواد قصائده، أما