للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تعسٍ بائسٍ، كله حرمان.

ونحن لا نقرأ في مختارات ديوانه التي نشرها كامل كيلاني حتى نحس برمه بالناس، وهو برم جعله يتألم ألَمًا شديدًا من فساد زمانه وأهله١، وتحوَّل يسلقهم بلسانه، ولم ينجُ منهم أحد، وربما كان المعتز أهم الخلفاء الذي تعرض لهم بالهجاء الحاد٢، وكانت فيه نزعة شيعية٣، ولعل هذا كان أحد الأسباب في هجائه اللاذع للمعتز وغيره من العباسيين. وهو لا يقف في هجائه عند حد، حتى النساء؛ فإنه على الرغم من غزله الكثير بهن يحكم عليهن أحكامًا قاسية لا تخلو من تشاؤم مرير٤.

وزاد في تشاؤمه وتعاسته وبرمه بالناس -نساء ورجالًا- أنه كان نَهِمًا بالحياة وملاذها، وكان يرى الشعراء من حوله أمثال البحتري ينعمون بخيراتها وطيباتها؛ بينما هو لا يصيبه منها إلا الإملاق والضنا. ويظهر أنه كان معتل الجسد مع اعتلال أعصابه؛ فتعاون هذا كله على أن يحس فاجعته وأن تتعمق فؤاده؛ إذ يطلب البهجة والمسرة والحياة السعيدة فلا يجد إلا الشقاء والخِذْلان، حتى في جسده وصحته. والغريب أن أحدًا من معاصريه لم يتقدم إلى إنقاذه، وهو يعد مسئولًا عن ذلك إلى حد كبير، فإنه لم يهيئ لهم الفرصة؛ إذ كان يزْوَرَّ عنهم بل كان يسلِّط عليهم سياط هجائه، وظل على ذلك إلى آخر حياته. وهناك قصة تزعم أن وزير المعتضد القاسمَ بن عبيد الله دسَّ له السم في بعض الطعام٥، وكان ذلك سبب وفاته سنة ٢٨٣ للهجرة. وأغلب الظن أنها قصة غير صحيحة وأنه مات ميتة طبيعية؛ نتيجة لأمراضه وعلله التي قضت عليه أخيرًا.

وإذا تركنا حياته إلى صنعة شعره وجدنا عباسًا العقاد يتشبث بروميته، أو بعبارة أدق بيونانيته، ويقول: "إنها لَوَّنت شعره ألوانًا خاصة أفردته عن شعراء العرب"٦


١ مروج الذهب للمسعودي ٨/ ٣٢٠.
٢ مختار الديوان ٢٨، ورقم ٤٨٠.
٣ مختار الديوان ٢٤٣.
٤ مختار الديوان رقم ٣٠.
٥ انظر: ترجمته في ابن خلكان.
٦ انظر: "مقدمة العقال" للمختار من ديوان ابن الرومي"نشر كامل كيلاني".

<<  <   >  >>