للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

منظرٌ معجبٌ، تحيَّة أنف ... ريحها ريحُ طيب الأولادِ

فهي تدلُّ على إدلال الفتاة الحسنة، وهو يحنُّ إليها حنانًا غريبًا، يحس فيه برائحة ذكية، رائحة الأولاد النجباء وما يشعر به الآباء نحوهم من عطف وحنو ومحبة؛ بل إنها لتتصبَّاه إذ تتبرَّج له:

تبرَّجت بعد حياءٍ وخفرٍ ... تبرجَ الأنثى تصدَّت للذَّكَر

وهذه الطبيعة المتبرجة مكث ابن الرومي يجري لاهثًا وراءها، وقد ملكت عليه حواسه، وملأت عليه قلبه؛ فهو مفتون بها، يفكر خلالها، ويُغرق بصره في ألوانها، ويغمر أشعاره بآثار لمسها وشمِّها، وكأنه لا يعيش في حدود نفسه؛ وإنما يعيش فيما حوله من الطبيعة الفاتنة. وهو جانب رائع في شعر ابن الرومي، يجعلنا نذكر شعراء الطبيعة عند الغربيين، ونقصد شعراء الحركة الرومانسية من أمثال وردزورث في إنجلترا ولامارتين في فرنسا؛ إذ نجد الشعراء يُهرعون إلى الطبيعة وواقع حياتهم يصفونهما منحرفين عن المدرسة الكلاسيكية التي عمت في القرنين السابع عشر والثامن عشر والتي كانت تتقيد بالأوضاع اليونانية واللاتينية، وقلما عدلت إلى شعر الطبيعة. وكذلك كان العباسيون قبل ابن الرومي يتأثرون بالقديم وقلما يلجئون إلى تصوير الطبيعة التي عاشوا فيها، وقد أقبل ابن الرومي يصورها تصوير العاشق المفتون على نمط يشبه -من بعض الوجوه- عمل أصحاب الحركة الرومانسية في أوربا. وقَرَن العقاد -مع شيء من الاحتياط- هذا الجانب في شعر ابن الرومي بيونانيته١. وإذا رجعنا إلى حقائق الظاهرة في الشعر الغربي الحديث وجدنا شعر الطبيعة عند الكلاسيكيين ولكن في صورة محدودة؛ فقد كان شعر الطبيعة حينئذ يشبه قناة ضيقة محدودة قد غصَّت بأعشاب كثيرة من الأوضاع اليونانية واللاتينية، فلما جاء القرن التاسع عشر فاضت القناة، واتسع


١ ابن الرومي: للعقاد، ص٢٨٢.

<<  <   >  >>